وكان زياد بن أبيه مدة توليته على العراق كثير الرعاية للأحْنف، ولما تولّى ولده عُبيد الله بعده تغيرت منزلته عنده، وصار يُقدِّم عليه من لا يساويه، ثم إن عبيد الله جمع أعيان العراق وفيهم الأحنف، وتوجه بهم إلى الشام للسلام على معاوية، فلما وصلوا دخل عبيد الله على معاوية، وأعلمه بوصول رؤساء العراق، فقال أدخلهم إليّ أوّلًا فأولًا على قدر مراتبهم عندك، فخرج إليهم وأدخلهم على الترتيب، وكان آخر من دخل الأحنف، فلما رآه معاوية، وكان يعرف منزلته، ويبالغ في إكرامه لتقدمه وسيادته، قال له: إليّ يا أبا بحر، وأجلسه معه على سريره، وأقبل عليه يسأله عن حاله ويحدثه، وأعرض عن غيره، ثم إن أهل العراق أخذوا في الثناء على عبيد الله والأحْنف ساكت، فقال له معاوية: لم لا تتكلم يا أبا بَحْر؟ فقال: إن تكلمت خالفتهم، فقال: اشهدوا عليّ أني قد عزلت عنكم عبيد الله، وقوموا وانظروا في أمير أوَلِّيه عليكم، وترجعون إليّ بعد ثلاثة أيّام. فلما خرجوا من عنده كان فيهم جماعة يطلبون الإِمارة لأنفسهم، وفيهم من عيّن الإِمارة لغيره، وسعوا في السر مع خواص معاوية أن يفعل لهم ذلك، ثم اجتمعوا بعد ثلاثة أيّام فدخلوا عليه، فأجلسهم على ترتيبهم في المجلس الأول، وأخذ الأحنف إليه كما فعل أوّلا، وحادَثَه ساعة، ثم قال: ما فعلتم فيما انفصلتم عليه؟ فجعل كل واحد يذكر شخصًا، وطال حديثهم في ذلك، وأفضى إلى منازعة وجدال، والأحْنف ساكت، ولم يكن في الأيام الثلاثة تحدث مع أحد في شيء، فقال له معاوية: لم لا تتكلم يا أبا بَحْر؟ فقال: إن ولّيت أحدًا من أهل بيتك لم نجد من يَعْدِل عبيد الله، ولا يسد مَسَدّه، وإن وليت من غيرهم، فذلك إلى رأيك، ولم يكن في الحاضرين الذين بالغوا في المجلس الأول في الثناء على عبيد الله من ذكره في هذا المجلس، ولا سأل عَوْدهُ إليهم، فلما سمع معاوية مقالة الأحْنف قال: اشهدوا عليّ أني قد أعدتُ عليكم عبيد الله. فكلٌّ منهم ندم على عدم تعيينه، وعلم معاوية أن شكرهم لعُبيد الله لم يكن لرغبتهم فيه، بل كما جرت العادة في حق