وفي هذا الحديث أن حُكْم الناسخ لا يثبت في حق المُكَلَّف حتى يبلُغَه، لأن أهل قُباء لم يؤمروا بالإعادة مع كون الأمر باستقبال القبلة قد وقع قبل صلاتهم تلك الصلوات، واستنْبط الطَّحاوِيّ منه أن من لم تَبلُغْه الدعوة ولم يمكنه استعلام ذلك، فالفرض غير لازم له وفيه جواز الاجتهاد في زمنه عليه الصلاة والسلام، لأنهم لما تَمادَوْا في الصلاة ولم يقطعوها، دل على أنه رَجَح عندهم التمادي والتحول على القطع، والاستئناف.
ولا يكون ذلك إلا عن اجتهاد. قيل: وفيه نظر، لاحتمال أن يكون عندهم في ذلك نصٌّ سابق، لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان مُترقِّبًا التحوُّل المذكور، فلا مانع من أن يعلمهم ما صنعوا من التمادي والتحول. قلتُ: هذا فيه بُعدٌ، لأنه وإن كان مترقبا للتحول لا يكون مُطَّلعًا على أن أهل مسجد يُخبَرُونَ به في أثناء الصلاة، وما رأينا أنه عليه الصلاة والسلام علَّم الناس حُكْم شيء لم يُسأل عنه قبل وقوعه، فتأمل.
وفيه قبول خبر الواحد ووجوب العمل به، ونسخ ما تقرر بطريق العلم به، لأن صلاتهم إلى بيت المقدس كان عندهم بطريق القطع، لمشاهدتهم صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى جهة، ووقع تحولهم عنها إلى جهة الكعبة بخبر هذا الواحد. وأجيب بأنّ الخبر المذكور احْتفَّت به قرائنُ ومُقدِّمات أفادت القطع عندهم بصدق ذلك المُخْبر، فلم يُنسخ عندهم ما يفيد العلم إلا بما يفيد العلم. قلت: هذا الجواب واهٍ، فأين هذه القرائن غير أنه صحابيّ عَدلٌ لا حامل له على الكذب؟.
وقيل: كان النَّسخُ بخبر الواحد جائزًا في زمنه عليه الصلاة والسلام مطلقا، وإنما مُنِع بعده، وهذا يحتاج إلى دليل. وفيه جواز تعليم مَنْ ليس في الصلاة من هو فيها، وأن استماع المصلي أم من ليس فيها لا يُفْسد صلاته. وفيه الرد على المُرْجئة في إنكارهم تسمية أعمال الدين إيمانا وفيه أن تَمَنِّي تغيير بعض الأحكام جائزٌ إذا ظهرت المصلحة في ذلك. وفيه بَيَان شَرَفِه - صلى الله عليه وسلم -، وكرامته على ربه، لإِعطائه له ما أحبّ من غير تصريح بالسؤال. وفيه بيانُ ما كان في الصحابة من الحرص على دينهم والشفقة على إخوانهم.