والتركيب المذكور المفيد للحصر يحتمل أن يحمل على المبالغة، أي: عماد الدين وقوامه النصيحة، كما قيل في حديث "الحج عرفة" أي: عماده ومعظمه، ويحتمل أن يحمل على ظاهره، لأن كل عمل لم يرد به عامله الإخلاص فليس من الدين.
والنصيحة مشتقة من نصحت العسل إذا صفيته من الشمع، ويقال: نصح الشيء إذا خلص، ونصح له القول إذا أخلصه له، شبهوا تخليص القول من الغش بتخليص العسل من الخلط، وقيل: مشتقة من النصح وهو الخياطة بالمِنْصَحة، وهي الإبرة، والمعنى: أنه يلم شعث أخيه بالنصح كما تلم المِنْصَحة شعثَ الثوب، ومنه: التوبة النصوح، كأن الذنب يمزق الدين، والتوية تخيطه.
قال الخطابي: النصيحة كلمة جامعة، معناها حيازة الحظ للمنصوح له، وهي من وجيز الكلام، بل ليس في كلام الغرب كلمة مفردة تُستوفى بها العبارة عن معنى هذه الكلمة، كما قالوا في الفلاح: ليس في كلام العرب كلمة أجمع لخيري الدنيا والآخرة منه.
وهذا الحديث من الأحاديث التي قيل: انها أحد أرباع الدين، وقال النووي: بل هو وحده محصل لغرض الدين كله، لأنه منحصر في الأمور التي ذكرها كما يظهر لك من تفسيرها:
فالنصيحة لله تعالى منصرف معناها إلى الإيمان به تعالى، ونفي الشريك عنه، وترك الإلحاد في صفاته، ووصفه بما هو له أهل، والخضوع له ظاهرًا وباطنًا، والرغبة في محابه بفعل طاعته، والرهبة من مساخطه بترك معصيته، والجهاد في رد العاصين إليه، والحب فيه، والبغض فيه، وموالاة من والاه، ومعاداة من عصاه، والاعتراف بنعمه التي لا تُحصى، وشكره عليها، والإِخلاص له في جميع الأمور، والدعاء إلى جميع هذه الأوصاف، وحث الناس عليها، وحقيقة هذه الإضافة راجعة إلى العبد في نصحه نفسه، فالله تعالى غني عن نصح الناصح وعن العالمين.