للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

من كان. وقال القرطبيّ: تأول بعضهم قوله: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة: ٥٤] قال: الإِشارة راجعة إلى الثواب المترتب على العمل الذي يحصل به التفضيل عند الله، فكأنه قال: ذلك الثواب الذي أخبرتكم به لا يستحقه أحد بحسب الذكر، ولا بحسب الصدقة، وإنما هو بفضل الله. وفي هذا التأويل بُعد. وقال ابن دَقِيق العِيد: ظاهر الحديث القريب من النص، أنه فضّل الغنيّ على الفقير، لما تضمنه من زيادة الثواب، بالقُربى المالية، والذي يقتضيه النظر أنهما إن تساويا، وفضلت العبادة المالية، أنه يكون الغنيّ أفضل. وهذا مما لا شكّ فيه. وإنما النظر إذا تساويا وانفرد كل منهما بمصلحة ما هو فيه، أيهما أفضل؟ إن فسر الفضل بزيادة الثواب، فالقياس يقتضي أن المصالِح المتعدية أفضل من القاصرة، فيترجح الغنى. وإن فسر بالأشرف بالنسبة إلى صفات النفس، فالذي يحصل للنفس من التطهير للأخلاق، والرياضة لسوء الطباع، بسبب الفقر، أشرف، فيترجح الفقر، ولهذا المعنى ذهب جمهور الصوفية إلى ترجيح الفقير الصابر، لأن مدار الطريق على تهذيب النفس ورياضتها. وذلك مع الفقر أكثر منه في الغنى.

وقد اصطلحت الصوفية على إطلاق الفقر على شيء تفاوتت فيه عباراتهم، وحاصله عندهم نفض اليد من الدنيا، ضبطًا وطلبًا، مدحًا وذمًا. وقالوا: إن المراد بذلك أن لا يكون ذلك في قلبه، سواء حصل في يده أم لا. وهذا يرجع إلى ما تضمنه حديث "أن الغنى غنى النفس" والفقر الذي وقع فيه النزاع المذكور عدمُ المال والتقللُ منه، لا ما عناه الصوفية.

وقال الكَرمَانيّ: إن مقصود الفقراء في شكواهم "ذهب أهل الدُّثُور بالأجور" تحصيلُ الدرجات العلا، والنعيم المقيم لهم، لا نفي الزيادة عن أهل الدثور مطلقًا. والذي يظهر أن مقصودهم إنما كان طلب المساواة، ويظهر أن الجواب وقع قبل أن يعلم النبي -صلى الله عليه وسلم-، أن متمني الشيء يكون شريكًا لفاعله في الأجر، كما مر قريبًا، وكذا قوله -صلى الله عليه وسلم-. "من سنّ سنَّة حسنة فله أجرها، وأجر من يعمل بها من غير أن ينقص من أجره شيء" فإن الفقراء

<<  <  ج: ص:  >  >>