في هذه القصة كانوا السبب في تعلم الأغنياء الذكر المذكور، فإذا استووا معهم في قوله، امتاز الفقراء بأجر السبب مضافًا إلى التمني، فلعل ذلك يقاوم التقرب بالمال، وتبقى المقايسة بين صبر الفقير على شظف العيش، وشكر الغني على التنعم بالمال. ومن ثم وقع التردد في تفضيل أحدهما على الآخر.
وفي "الفتح" عند حديث "الطاعم الشاكر، مثل الصائم الصابر" أخرجه البخاريّ في "الصحيح" معلقًا، وأخرجه في التاريخ، والحاكم في "المستدرك" موصولًا، قال الكرمانيّ: التشبيه هنا في أصل الثواب، لا في الكمية، ولا في الكيفية. والتشبيه لا يستلزم المماثلة من جميع الأوجه. قال: وفي الحديث رفع الاختلاف المشهور في الغنيّ الشاكر والفقير الصابر، وأنهما سواء، كذا قيل.
ومساق الحديث يقتضي تفضيل الفقير الصابر لأن الأصل أن المشبه به أعلى درجة من المشبه، والتحقيق عند أهل الحذق، أن لا يجاب في ذلك بجواب كلي، بل يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال. نعم، عند الاستواء من كل جهة، وفرض رفع العوارض بأسرها، فالفقير أسلم عاقبة في الدار الآخرة، ولا ينبغي أن يعدل بالسلامة شيء. وقال أحمد بن نَصر الدّاوديّ: الفقر والغنى بختان من الله يختبر بهما عباده، في الشكر والصبر، كما قال تعالى:{إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}[الكهف: ٧] وقال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}[الأنبياء: ٣٥] وثبت أنه -صلى الله عليه وسلم-، كان يستعيذ من شر فتنة الفقر، ومن شر فتنة الغنى. والسؤال: أيهما أفضل؟ لا يستقيم لاحتمال أنْ يكون لأحدهما من العمل الصالح ما ليس للآخر، فيكون أفضل. وإنما يقع السؤال عنهما إذا استويا، بحيث يكون لكل منهما من العمل ما يقاوم به عمل الآخر، فعلم أيهما أفضل عند الله.
وقال ابن الجَوْزيّ: صورة الاختلاف في فقير ليس بحريص، وغني ليس بممسك، إذ لا يخفى أن الفقير القانع، أفضل من الغني البخيل، وأن الغني المنفق، أفضل من الفقير الحريص. قال: وكل ما يراد لغيره، ولا يراد لعينه،