قسمين بعد أن فتحت عليهم الفتوح، فمنهم من أبقى ما بيده مع التقرب إلي ربه بالبر والصلة والمواساة، مع الاتصاف بغنى النفس. ومنهم من استمر على ما كان عليه قبل ذلك، فكان لا يبقي شيئًا مما فتح عليه به، وهم قليل بالنسبة للطائفة الأخرى.
ومن تبحر في سير السلف علم صحة ذلك، فأخبارهم في ذلك كثيرة، وحديث خَبَّاب المارّ شاهدٌ لذلك. وأخرج مسلم عن سعد بن أبي وقّاص، رفعه، "أن الله يحب الغنيّ التقيّ الخفيّ" وهو دال لما مرّ، سواء حملنا الغنى فيه على المال، أو على غنى النفس. فإنه على الأول ظاهر، وعلى الثاني يتناول القسمين، فيحصل المطلوب والمراد بالتقي، وهو بالمثناة، من يترك المعاصي امتثالا للمأمور به، واجتنابا للمنهي. والخفي، ذُكر للتتميم، إشارة إلى ترك الرياء ومن المواضع التي وقع فيها التردد، مَنْ لا شيء له فالأولى في حقه أن يكتسب للصون عن ذل السؤال، أو يترك وينتظر ما يفتح عليه بغير مسألة.
فصح عن أحمد مع ما اشتهر من زهده وورعه، أنه قال لمن سأله عن ذلك:"إلْزم السوق". وقال لأخر:"استغن عن الناس، فلم أر مثل الغنى عنهم". وقال: ينبغي للناس كلهم أن يتوكلوا على الله تعالى، وأن يُعوَّدُوا أنفسهم التكسب. ومن قال بترك التكسب، فهو أحمق، يريد تعطيل الدنيا. نقله أبو بكر المَرْوزيّ.
وقال:"أجرة التعليم والتعلم أحب إلى من الجلوس لانتظار ما في أيدي الناس"، وقال أيضًا:"من جلس ولم يحترفْ دعته نفسه إلى ما في أيدي الناس" وأسند عن عمر "كسب فيه بعض الشيء خير من الحاجة إلى الناس"، وأسند عن سعيد بن المُسيِّب أنه قال عند موته، وترك مالًا:"الَّلهمّ إنك تعلم أني لم أجمعه إلا لأصون به ديني" وعن سُفيان الثَّوريّ وأبي سليمان الدّارَانيّ، وغيرهما من السلف، نحوه بل لقلة البر بها. روي عن الصحابة والتابعين وأنه لا يحفظ عن أحد منهم أنه ترك تعاطي الرزق مقتصرًا على ما يفتح عليه، واحتج من فضّل الغنى، بالأمر في قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ