الصبح، والمراد بفلق الصبح ضياؤه، وخُصَّ بالتشبيه لظهوره الواضح الذي لا شك فيه، وقيل: عبر به لأن شمس النبوة قد كانت مبادئ أنوارها الرؤيا إلى أن ظهرت أشعتها، وتم نورها، وإنما بدىء بالرؤيا ليكون ذلك تمهيدًا وتوطئة لليَقَظَة، ثم مهد له في اليقظة أيضًا رؤية الضوء، وسماع الصوت، وسلام الحجر عليه، وذلك كله لئلا يَفْجَأَهُ الملك، ويأتيه بصريح النبوة بغتة، فلا تحتمل القوى البشرية ذلك، فبُدىءَ بأوائِل خِصال النبوة، وكانت مدة الرؤيا ستة أشهر، فيما حكاه البَيْهَقِيّ، وحينئذ يكون ابتداء النبوة بالرؤيا حَصَلَ في شهر ربيع، شهر مولده، عليه الصلاة والسلام، واختلف هل أُوحي إليه من القرآن في النوم أم لا؟ والأشبه أن القرآن كله في اليَقَظَة.
وقوله:"ثم حُبِّبَ إليه الخلاءُ" بالبناء، لم يُسمَّ فاعِلهُ، لعدم تحقق الباعث على ذلك، وإن كان كل من عند الله، أو لينبه على أنه لم يكن من باعث البشر. والخلاء بالمد الخلوة؛ وإنما حببت إليه الخلوة, لأن معها فراغ القلب، والانقطاع عن الخَلْق ليجدَ الوحي منه متمكنًا كما قيل:
فصَادَفَ قَلبًا خالِيًا فتَمَكَّنا
وخلوته، عليه الصلاة والسلام، إنما كانت لأجل التقرب، لا على أن النبوة مكتسبة.
وقوله:"وكانَ يَخْلو بغارِ حِراء" -بكسر الحاء المهملة، وتخفيف الراء والمد، وبفتح الحاء، ويقصر- وهو مصروف إن أُريد المكان، وممنوع إن أُريد البقعة، فهي أربعة، التذكير، والتأنيث، والمد، والقصر، وكذا حكم قُباء، وقد نظم بعضهم أحكامهما، فقال: