فضله على غيره, لأنه مُنْزَوٍ مجموع لتحنثه، وينظر منه الكعبة المعظمة, ونظرها عبادة، فكان له، عليه الصلاة والسلام، فيه ثلاث عبادات؛ الخلوة والتَّحَنُّث، والنظر إلى الكعبة، وقيل: إنه هو الذي نادى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حين قال له ثَبِير: اهبط عني، فإني أخاف أن تقتل على ظهري، فاعذرني يا رسول الله.
وقوله:"فيَتَحَنَّث فيه" بالحاء المهملة وآخره مثلثة. وهو من الأفعال التي معناها السلب، أي اجتناب فاعلها لمصدرها، أي يتجنب الحِنْث، أي الإِثم، مثل تأثم وتَحَوَّب، إذا اجتنب الإِثم والحُوب، أو هي بمعنى يَتَحَنَّف -بالفاء- أي يتبع الحنفية، دين إبراهيم، والفاء قد تبدل تاء.
وقوله:"وهو التَّعَبُّدُ" الضمير راجع إلى مصدر يَتَحَنَّثُ، أي والتحنث التعبد على حد قوله تعالى:{عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}[المائدة: ٨] أي العدل، وهذا التفسير للزُّهري مُدرج في الحديث.
وقوله:"الليالي ذوات العدد" الليالي متعلق، بـ "يتحنث" منصوب على الظرفية، وذوات منصوب بالكسرة، صفة لليالي، والمراد الليالي مع أيامهن، واقتُصر عليهن للتغليب, لأنهن أنسب للخَلوة، ووصف الليالي بذوات العدد لإِرادة التقليل، كقوله تعالى:{دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ}[يوسف: ٢٠] أو للكثرة لاحتياجها إلى العدد، وهو المناسب للمقام، وأبهم العدد لاختلافه بالنسبة إلى المدد التي يتخللها مجيئه إلى أهله، وأقل الخلوة ثلاثة أيام، ثم سبعة، ثم شهر، لما عند المؤلف، ومسلم:"جاوَرْتُ بِحِراء شَهْرًا"، وعند ابن إِسحاق:"أَنّهُ شَهرُ رَمَضان" ولم يصِحَّ عنه - صلى الله عليه وسلم - أكثر منه، وقوله تعالى:{وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ}[الأعراف: ١٤٢] حجة للشهر، والزيادة إنما كانت إتماما للشهر، حيث استاك، أو أكل فيه، كسجود السهو، فقوي تقييدها بالشهر، وأنها سنة، ولم يأت التصريح بصفة تعبده، عليه الصلاة والسلام، فيحتمل أن عائشة أطلقت على الخلوة بمجردها تعبدًا، فإن