المسافرين، يحوطونها إلى جهة القبلة، وهي في غاية الصغر، ويعضها لا يكون أكثر من قدر موضع السجود، وروى البيهقي في الشُّعَب عن عائشة نحو حديث عثمان، وزاد فيه "قلت: وهذه المساجد التي في الطرق؟ قال: نعم" وللطبرانيّ نحوه من حديث أبي قِرْصافة، وإسنادهما حسن.
وإنما خص القطاة بهذا لأنها لا تبيض على شجرة، ولا على رأس جبل، بل إنما تجعل مجثمها على بسيط الأرض دون سائر الطير، فلذلك شبه به المسجد، ولأنها توصف بالصدق، فكأنه أشار بذلك إلى الإخلاص في بنائه، كما قال الشيخ أبو الحسن الشاذليّ: خالص العبودية الاندماج في طي الأحكام من غير شهرة ولا إرادة، وهذا شأن هذا الطائر. وقيل لأن أفحوصها يشبه محراب المسجد في استدارته وتكوينه. وقوله: قال بكير: حسبت أنَّه، أي شيخه عاصمًا بالإسناد المذكور، وقوله: يبتغي به وجه الله، أي ذاته عز وجل، طلبًا لمرضاته تعالى، لا رياء أو سمعة. والمعنى ذلك الإخلاص، وهذه الجملة لم يجزم بها بكير في الحديث، وكل من روى حديث عثمان لفظه "من بني لله مسجدًا" فكأنَّ بكيرًا نسيها، فذكرها بالمعنى مترددًا في اللفظ الذي ظنه، فإن قوله "لله" بمعنى قوله "يبتغي به وجه الله" لاشتراكهما في المعنى المراد، وهو الإخلاص.
قال ابن الجوزيّ: من كتب اسمه على المسجد الذي يبنيه كان بعيدًا من الإخلاص. ومن بناه بالأجرة لم يحصل له هذا الوعد المخصوص، لعدم الإخلاص، وإن كان يؤجر في الجملة. وروى أصحاب السنن وابن خزيمة والحاكم عن عقبة بن عامر مرفوعًا "أن الله يُدخل بالسهم الواحد ثلاثةً الجنة: صانِعَه المحتَسِبَ في صنعته، والرامي به، والمُمِدَّ بِهِ" فقوله: المحتسب في صنعته، أي من يقصد بذلك إعانة المجاهد، وهو أعم من أن يكون متطوعًا بذلك، أو بأجرة، لكن الإخلاص لا يحصل إلا من المتطوع، وهل يحصل الثواب المذكور لمن جعل بقعة من الأرض مسجدًا، بأن يكتفي بتحويطها من غير بناء؟ وكذا من عمد إلى بناء كان يملكه فوقفه مسجدًا؟ إن وقفنا مع ظاهر اللفظ فلا، وإن نظرنا إلى المعنى فنعم، وهو المتجه. وكذا قوله "بنى" حقيقة