سيّما وهو من جنسه، وكيف تحجب الأرض نور الشمس وهي في زاوية منها لأنهم يزعمون أن الشمس أكبر من الأرض بتسعين ضعفًا.
وقد وقع في حديث النعمان بن بشير وغيره سبب آخر للكسوف غير ما يزعمه أهل الهيئة، وهو ما أخرجه أحمد والنَّسائي وابن ماجه وصحّحه ابن خزيمة والحاكم بلفظ أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكنهما آيتان من آيات الله وأن الله إذا تجلّى لشيء من خلقه خشع له، وقد استشكل الغزالي هذه الزيادة وقال: إنها لم تثبت، فيجب تكذيب ناقلها ولو صحت لكان تأويلها أهون من مكابرة أمور قطعية لا تصادم أصلًا من أصول الشريعة.
قال ابن بزيزة: هذا عجيب منه، كيف يسلّم دعوى الفلاسفة ويزعم أنها لا تصادم الشريعة مع أنّها مبنية على أن العالم كرويّ الشكل، وظاهر الشرع يعطي خلاف ذلك، والثابت من قواعد الشريعة أن الكسوف أثر الإرادة القديمة وفعل الفاعل المختار، فيخلق في هذين الجرمين النور متى شاء. والظلمة متى شاء من غير توقف على سبب أو ربط باقتراب.
والحديث الذي ردّه الغزالي قد أثبته غير واحد من أهل العلم، وهو ثابت من حيث المعنى أيضًا لأن النورية والاضاءة من عالم الجمال الحسّي، فإذا تجلت صفة الجلال انطمست الأنوار لهيبته، ويؤيّده قوله تعالى:{فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} ويؤيد هذا الحديث ما روي عن طاووس أنه نظر إلى الشمس وقد انكسفت فبكى، حتّى كاد أن يموت. وقال: هي أخوف لله منّا.
وقال ابن دقيق العيد: ربّما يعتقد بعضهم أن الذي يذكره أهل الحساب ينافي قوله: {يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ} وليس بشيء، لأن لله أفعالًا على حسب العادة، وأفعالًا خارجة عن ذلك، وقدرته حاكمة على كل سبب، فله أن يقتطع ما يشاء من الأسباب والمسببات بعضها عن بعض. وإذا ثبت ذلك فالعلماء بالله لقوة اعتقادهم في عموم قدرته على خرق العادة، وأنه يفعل ما يشاء إذا وقع شيء غريب حدث عندهم الخوف لقوة ذلك الاعتقاد، وذلك لا يمنع أن تكون هناك أسباب تجري عليها العادة إلى أن يشاء الله خرقها، وحاصله أن الذي يذكره أهل الحساب إن كان حقًا في نفس الأمر لا ينافي كون ذلك مخوفًا لعباد الله تعالى (١).
وقوله: لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته قد جاء في رواية عبد الوارث الآتية في الكسوف بيان سبب هذا القول ولفظه: أن ابنًا للنبي -صلى الله عليه وسلم- يقال له إبراهيم مات، فقال الناس في ذلك.
وفي رواية مبارك بن فضالة عند ابن حبّان، فقال الناس: إنما كسفت الشمس لموت إبراهيم. ولأحمد والنَّسائي وابن ماجه وصحّحه ابن خزيمة وابن حبّان عن النعمان بن بشير قال: انكسفت
(١) يقول مصححه: ثبت علميًا قطعياً صحة قول الفلكيين في معرفة أوقات الكسوف والخسوف سلفًا. فقول ابن دقبق العيد والغزالى هو الأقرب للصواب، والله أعلم.