مني ألف النفي كهي في قوله تعالى:{أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا} على أحد الأقوال، قال: وهو كلام متدلل علم مكانه من ربه وبسطه له بالإِعطاء وجوّز عياض أن الرجل قال ذلك وهو غير ضابط لما قال إذ وَلَهُ عقله من السهر وربما لم يخطر بباله ويؤيده أنه قال في بعض طرقه عند مسلم لما خلص من النار: "لقد أعطاني اللهُ شيئًا ما أعطاهُ أحدًا من الأولينَ والآخرينَ". وقال القرطبي في "المفهم": أكثروا في تأويله وأشبه ما قيل فيه أنه استخفه الفرح وأدهشه فقال ذلك، وقيل: قال ذلك لكونه خاف أن يجازى على ما كان منه في الدنيا من التساهل في الطاعات وارتكاب المعاصي كفعل الساخرين، فكأنه قال: أتجازيني على ما كان مني، فهو كقوله: سخر الله منهم، وقوله: الله يستهزىء بهم أي: ينزل بهم جزاء سخريتهم واستهزائهم، وقوله:"ضحك حتى بدتْ نواجذُهُ" بنون وجيم وذال معجمة جمع ناجذ، وفي رواية ابن مسعود فضحك ابن مسعود فقالوا: مِمّ تضحك؟ فقال: هكذا فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من ضحكِ ربِّ العالمينَ حينَ قالَ الرجلُ: أتستهزىءُ مني؟ قال: لا أستهزىءُ منْكَ، ولكنَّي على ما أشاءُ قادرٌ".
قال البيضاوي: نسبة الضحك إلى الله تعالى مجاز بمعنى الرضى، وضحك النبي -صلى الله عليه وسلم- على حقيقته، وضحك ابن مسعود على سبيل التأسي.
وقوله: فيقول له: تمنَّ فيتمنّى، حتى إذا انقطعتْ أمنيتهُ إلى قوله قال اللهُ تعالى: لكَ ذلكَ ومثلُهُ معهُ. قال أبو سعيد الخدري لأبي هريرة: "رضي الله تعالى عنهم" أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "قال اللهُ عزّ وجلّ لكَ ذلكَ وعشرةُ أمثالِه" وفي رواية إبراهيم بن سعد قال أبو سعيد: "وعشرةُ أمثالِ يا أبا هريرة" وفيه فقال أبو سعيد الخدري: أشهد أني حفظت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وفي حديث أنس عن ابن مسعود: "يرضيكَ أني أعطيتُكَ الدّنيَا ومثلَها معَها". وفي حديث حذيفة عن أبي بكر: "انظر إلى ملك أعظم ملك، فإنّ لكَ مثلَهُ وعشرَ أمثالِه، فيقولُ: أتسخرُ بي وأنتَ المَلِكُ؟ " وعند أحمد من وجه آخر عن أبي هريرة وأبي سعيد جميعًا في هذا الحديث فقال أبو سعيد: "ومثلُهُ مَعُه" فقال أبو هريرة: "وعشرةُ أمثالِه"، فقال أحدهما لصاحبه: حَدِّثْ بما سمعتَ وأحدِّثُ بما سمعتُ وهذا مقلوب، فإن الذي في "الصحيح" هو المعتمد، وعند البزار من الوجه الذي أخرجه منه أحمد على وفق ما في "الصحيح". وفي حديث أبي سعيد الطويل الآتي في "التوحيد" بعد ذكر من يخرج من عصاة الموحدين فقال في آخره: "فيُقالُ لهم: لكم ما رأيتُم ومثلُهُ معَهُ"، فهذا موافق لحديث أبي هريرة في الاقتصار على المثل، ويمكن أن يجمع بأن يكون عشرة الأمثال إنما سمعه أبو سعيد في حق آخر أهل الجنة دخولًا، والمذكور هنا في حق جميع مَنْ يخرج بالقبضة. وجمع عياض بين حديثي أبي سعيد وأبي هريرة باحتمال أن يكون أبو هريرة سمع أولًا قوله: "ومثلُهُ معهُ" فحدّث به، ثم حدّث النبي -صلى الله عليه وسلم- بالزيادة فسمعه أبو سعيد، وعلى هذا فيقال: سمعه أبو سعيد وأبو هريرة معًا أولًا، ثم سمع أبو سعيد الزيادة بعد، وظاهر قوله: "هذا لك وعشرةُ أمثالِه" أن العشرة زائدة على الأصل.