للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وفي رواية أنس عن ابن مسعود: "لَك الذي تمنيت وعشرةُ أضعافِ الدنيا" وحمل على أنه تمنى أن يكون له مثل الدنيا، فيطابق حديث أبي سعيد. وفي رواية لمسلم عن ابن مسعود: "لك مثلُ الدنيا وعشرةُ أمثالِها". قال الكلاباذي إمساكه أولًا عن السؤال حياء من ربه والله يحب أن يُسأل؛ لأنه يحب صوت عبده المؤمن، فيباسطه بقوله أولًا: لعلك إن أعطيت هذا تسأل غيره، وهذه حالة المقصر فكيف حالة المطيع؟ وليس نقض هذا العبد عهده وتركه ما أقسم عليه جهلًا منه ولا قلة مبالاة، بل علمًا منه بأن نقض هذا العهد أولى من الوفاء به؛ لأن سؤاله ربه أولى من ترك السؤال مراعاة للقسم. وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ حلفَ على يمينٍ فرأى خيرًا مِنْها فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يمينِهِ وَلْيَأتِ الذي هو خيرٌ". فيعمل هذا العبد على وفق هذا الخبر، والتكفير قد ارتفع عنه في الآخرة. قال ابن أبي جمرة -رحمه الله تعالى- في هذا الحديث من الفوائد جواز مخاطبة الشخص بما لا تدرك حقيقته، وجواز التعبير عن ذلك بما يفهم، وأن الأُمور التي في الآخرة لا تشبه بما في الدنيا إلاَّ في الأسماء. والأصل مع المبالغة في تفاوت الصفة والاستدلال على العلم الضروري بالنظم وأن الكلام إذا كان محتملًا لأمرين بات التكلم بشيء يتخصص به مراده عند السامع، وأن التكليف لا ينقطع إلا بالاستقرار في الجنة أو النار، وأن امتثال الأمر في الموقف يقع بالاضطرار وفيه فضيلة الإيمان؛ لأنه لما تلبس به المنافق ظاهرًا بقيت عليه حرمته إلى أن وقع التمييز بإطفاء النور وغير ذلك، وأن الصراط مع دقته وحدته يسع جميع المخلوقين منذ آدم إلى قيام الساعة، وفيه أن النار مع عظمها وشدتها لا تتجاوز الحد الذي أُمرت بإحراقه والآدمي مع حقارة جرمه يقدم على المخالفة ففيه معنى شديد من التوبيخ وهو كقوله تعالى في وصف الملائكة: {غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} وفيه إشارة إلى توبيخ العصاة والطغاة، وفيه فضل الدعاء وقوة الرجاء في إجابة الدعوة ولو لم يكن الداعي أهلًا لذلك في ظاهر الحكم، لكن فضل الكريم واسع. وفي قوله في آخره في بعض طرقه "ما أغدرك" إشارة إلى أن الشخص لا يوصف بالفعل الذميم إلا بعد أن يتكرر ذلك. وفيه إطلاق اليوم على جزء منه؛ لأن يوم القيامة في الأصل يوم واحد، وقد أطلق اسم اليوم على كثير من أجزائه، وفيه جواز سؤال الشفاعة خلافًا لمن منع محتجًا بأنها لا تكون إلا لمذنب.

قال عياض وفات هذا القائل أنها قد تقع في دخول الجنة بغير حساب وغير ذلك مما مرّ بيانه عند حديث: "حلّتْ شفاعتي" في الأذانِ مع أن كل عاقل معترف بالتقصير فيحتاج إلى طلب العفو عن تقصيره وكذا كل عامل يخشى أن لا يقبل عمله فيحتاج إلى الشفاعة في قبوله. قال: ويلزم هذا القائل أن لا يدعو بالمغفرة ولا بالرحمة وهو خلاف ما درج عليه السلف في أدعيتهم، قلت: ومن أين لشخص غير نبي معصوم أنه لم يعص الله تعالى؟ وفي الحديث أيضًا تكليف ما لا يطاق؛ لأن المنافقين يؤمرون بالسجود وقد منعوا منه، كذا قيل وفيه نظر؛ لأن الأمر حينئذ للتعجيز والتبكيت وفيه إثبات رؤية الله تعالى في الآخرة. قال الطيبي: وقول مَنْ أثبت الرؤية ووكل علم حقيقتها إلى الله فهو الحق، وكذا قول مَنْ فسّر الإتيان بالتجلي هو الحق, لأن ذلك قد تقدمه قوله: هل تضارون

<<  <  ج: ص:  >  >>