من طرف هذا الحديث تعيين هذا السائل وعند الإسماعيلي قال ولا الجهاد في سبيل الله مرتين. في رواية سلمة بن كهيل أيضًا حتى أعادها ثلاثًا. ودل سؤالهم هذا على تقرر أفضلية الجهاد عندهم وكأنهم استفادوه من قوله عليه الصلاة والسلام في جواب من سأله عن عمل يعدل الجهاد فقال:"لا أجده".
وقوله:"إلا رجل خرج" كذا للأكثر. والتقدير إلا عمل رجل.
وللمستملي "إلا من خرج" وقوله: "يخاطر بنفسه" أي: يقصد قهر عدوه ولو أدى ذلك إلى قتل نفسه. وقوله:"فلم يرجع بشيء" أي: فيكون أفضل من العامل في أيام العشر أو مساويًا له.
قال ابن بطال: هذا اللفظ يحتمل أمرين أن لا يرجع بشيء من ماله وإن رجع هو، ولا أن يرجع هو ولا ماله بأن يرزقه الله الشهادة. وتعقبه ابن المنير بأن قوله:"فلم يرجع بشيء" يستلزم أن يرجع بنفسه ولابد، وهو تعقب مردود فإن قوله:"فلم يرجع بشيء" نكرة في سياق النفي فتعم ما ذكر.
وفي رواية الطيالسي وغُنْدر وغيرهما عن شعبة "فلم يرجع من ذلك بشيء" والحاصل أن نفي الرجوع بالشيء لا يستلزم إثبات الرجوع بغير شيء؛ بل هو على الاحتمال كما قال ابن بطال، ويدل على الثاني وروده بلفظ تقتضيه فعند أبي عوانة عن شعبة بلفظ "إلاَّ من عقر جواده وأهريق دمه"، وعنده في رواية القاسم بن أبي أيوب "إلا من لا يرجع بنفسه ولا ماله". وفي طريق سلمة بن كهيل فقال:"لا إلا أن لا يرجع".
وفي حديث جاير "إلا من عفر وجهه في التراب" فظهر بهذه الطرق ترجيح ما رده. وفي الحديث تعظيم قدر الجهاد وتفاوت درجاته، وأن الغاية القصوى فيه بذل النفس لله، ويجمع بين حديث الباب وحديث أبي هريرة الآتي في أول الجهاد "أن رجلًا جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-فقال دُلّني على عملٍ يعدلُ الجهادَ قال: لا أجدهُ قال: هل تستطيعُ إذا خرجَ المجاهدُ أن تدخلَ مسجدَكَ فتقوم ولا تفترُ وتصومَ ولا تفطر؟ قال: ومن يستطيع ذلك" بأن يكون عموم حديث أبي هريرة خص بما دل عليه حديث ابن عباس هذا، ويحتمل أن يكون الفضل الذي في حديث أبي هريرة مخصوصًا بنفسه وماله فلم يرجع بشيء" فمفهومه أن من رجع بذلك لا ينال الفضيلة المذكورة، لكن يشكل عليه ما وقع في حديث أبي هريرة الآخر وتكفل الله للمجاهد في سبيله.
ويمكن أن يجاب بأن الفضل المذكور أولًا خاص بمن لم يرجع، ولا يلزم من ذلك أن لا يكون لمن يرجع أجر في الجملة. وقد مرّ استيفاء الكلام على هذا في باب (الجهاد من الإيمان) من كتاب "الإيمان" وأشد مما تقدم في الإشكال ما أخرجه الترمذي وابن ماجه وأحمد وصححه الحاكم عن أبي الدرداء مرفوعًا "ألا أُنبئُكم بخير أعمالِكُم وأزكاها عندَ مليكِكُم وأرفعها في درجاتِكم، وخيرٌ لكم من إنفاقِ الذهب والوَرِقِ، وخيرٌ لكم من أن تلقوا عَدوكم فتضربوا أعناقَهم ويضربوا أعناقكم. قالوا: بلى، قال: ذكرُ اللهِ". فإنه ظاهر في أن الذكر بمجرده أفضل من أبلغ ما يقع للمجاهد وأفضل