ثم تمييز المنافقين من المؤمنين، ثم حلول الشفاعة بعد وضع الصراط والمرور عليه، فكأن الأمر باتباع كل أمة ما كانت تعبد هو أول فصل القضاء، والإراحة من كرب الموقف. قال: وبهذا تجتمع متون الأحاديث، وتترتب معانيها، فكأنّ بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ الآخر، فظهر أنه عليه الصلاة والسلام أول ما يشفع ليقضي بين الخلق، وأن الشفاعة فيمن يخرج من النار ممن سقط، تقع بعد ذلك. وفي حديث ابن عمر الذي في الباب "فيشفع ليقضي بين الخلق، فيمشي حتى يأخذ بحلَقَة الباب، فيومئذ يبعثه الله مقامًا محمودًا يحمده أهل الجمع كلهم". وفي حديث أُبيّ بن كعب عند أبي يعلى "ثم أمتدحه بمدحة يرضى بها مني، ثم يؤذن لي في الكلام، ثم تمر أمتي على الصراط، وهو منصوب بين ظهراني جهنم، فيمرون، وفي رواية ابن عباس عند أحمد فيقول عز وجل: "يا محمد، ما تريد أن أصنع في أمتك؟ فأقول: يا ربِّ عجل حسابهم وفي رواية عنه أيضًا عند أحمد وأبي يعلى: فأقول: أنا لها حتى يؤذن الله لمن يشاء ويرضى، فإذا أراد الله أن يفرغ من خلقه نادى منادٍ أين محمد وأمته؟ ... الحديث وتعرض الطيبي للجواب عن الإشكال بطريق آخر فقال: يجوز أن يراد بالنار الحبس والكرب والشدة التي كان أهل الموقف فيها من دنو الشمس إلى رؤوسهم وكربهم، بحرِّها وسفعها، حتى الجمهم العرق. وإن يراد بالخروج منها خلاصهم من تلك الحالة التي كانوا فيها، وهو احتمال، إلا أن يقال إنه يقع اخراجان ذكر أحدهما في حديث الباب على اختلاف طرقه، والمراد به الخلاص من كرب الموقف والثاني في الحديث المتقدم في باب فضل السجود. ويكون قوله فيه: من كاتن يعبد شيئًا فليتبعه بعد تمام الخلاص من الموقف، ونصب الصراط، والإذن في المرور عليه، ويقع الإخراج الثاني لمن يسقط في النار حال المرور، فيتحدا. وقد مرّت الإشارة إلى هذا عند الكلام على "حتى يبلغ العرق نصف الأذن" وأجاب القرطبيّ عن أصل الإشكال بأن في قوله في حديث أبي هريرة، بعد قوله عليه الصلاة والسلام "فأقول: يا رب أمتي أمتي، فيقال: ادخل من أمنك من الباب الأيمن من أبواب الجنة مَنْ لا حساب عليهم. ولا عذاب"، قال: في هذا ما يدل على أن النبي -صلى الله عليه وسلم-، يشفع فيما طلب من تعجيل الحساب، فإنه لما أُذن له في إدخال مَنْ لا حساب عليه، دل على تأخير مَنْ عليه حساب ليحاسب.
وفي حديث الصُّور الطويل عند أبي يعلى "فأقول: يا ربِّ، وعدتني الشفاعة فشفعني في أهل الجنة يدخلون الجنة. فيقول الله: قد شفعتك فيهم، وأذنت لهم في دخول الجنة". وهذا فيه إشعار بأن العرض والميزان وتطاير الصحف يقع في هذا الموطن، ثم ينادي المنادي ليتبع كل أمة من كانت تعبد، فيسقط الكفار في النار، ثم يميز بين المؤمنين والمنافقين بالامتحان بالسجود عند كشف الساق، ثم يؤذن في نصب الصراط والمرور عليه، فيطفأ نور المنافقين فيسقطون في النار أيضًا، ويمر المؤمنون عليه إلى الجنة، فمن العصاة من يسقط، ويوقف بعض من نُجِّيَ عند القنطرة للمقاصَّة بينهم، ثم يدخلون الجنة.