قال الطّبريّ: لو كان الواجب في كل اختلاف يقع بين المسلمين الهَرَبُ منه بنزول المنازِلِ وكَسْر السيوف لما أُقيم حدُّ ولا أُبْطل باطل، ولَوَجَد أهْلُ الفسوق سبيلا إلى ارتكاب المُحرّمات من أخْذ الأموال، وسفكِ الدّماء وسَبْي الحريم، بأنْ يحاربوهم ويكفّ المسلمون أيديهم عنهم، بأن يقولوا: هذه فتنة وقد نُهينا عن القتال فيها. وهذا مخالف للأمر بالأخذ على أيدي السُّفهاء.
وقد أخرج البَزّار في حديث القاتل والمقتول في النار زيادة تُبيّن المراد، وهي "إذا اقْتتلتُم على الدُّنيا فالقاتلُ والمقتول في النار" ويؤيِّده ما أخرجه مسلم بلفظ "لا تَذْهبُ الدنيا حتى يأتي على الناس زَمانٌ لا يدري القاتلُ فيم قَتَل ولا المقتول فِيم قُتِل، فقيل: كيف يكون ذلك؟ قال: الهرج القاتل والمقتول في النار".
قال القُرطُبيّ: فبين هذا الحديث أن القتال إذا كان على جَهْل من طلب الدنيا أو اتباع هوى فهو الذي أريد بقوله: القاتل والمقتول في النار.
قال في "الفتح" ومن ثَمَّ كان الذين توقَّفُوا عن القتال في الجَمل وصِفِّين أقلَّ عددًا من الذين قاتلوا، وكلُّهم متأوِّلٌ مأجورٌ إن شاء الله تعالى، بخلاف من جاء بعدهم ممن قاتل على طلب الدنيا.
قلت: قوله أقلُّ عددًا، الظاهر لي أنه إنما يصح إذا حُمِل على مطلق الصحابة. وأما كبارُ الصحابة الأقدمون فأكثرهم هو الذي توقّف عن القتال. ويؤيده ما مر ما أخرجه مسلم عن أبي هريرة، رَفَعَه، "من كان تحتَ رايةٍ عُمّيّة يغْضَبُ لعَصَبة أو يدعو إلى عَصَبَة أو يَنْصُر عصبة فقُتِل فقِتلَتُهُ جاهلية" والعمّية بضم العين وكسرها وتشديد الميم فيهما: الكِبْرُ أو الضلال، وكَغَنيَّة أيضًا، وبِضم العين: الغِواية واللّجاج.
وقد ورد في اعتزال الأحنف القتال في وقعة الجمل سببٌ آخر، فأخرج الطّبرِيُّ بسند صحيح عن حُصين بن عبد الرحمن عن عَمرو بن جاوان