محذوف جواب الشرط إن أعربت مَنْ شرطية، وقد ثبت المحذوف في رواية الدارمِيّ عن أبي نُعَيْم شيخ البخاري فيه، فقال:"ومَنْ وقع في الشُّبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى". ويمكن إعراب مَنْ في سياق البخاري موصولة، فلا يكون فيه حذف، إذ التقدير: والذي وقع في الشبهات مثل راعٍ يرعى، والأول أولى لثبوت المحذوف في "صحيح" مسلم وغيره من طريق زكريّاء التي أخرجه المؤلف منها، وعلى هذا فقوله:"كراع يرعى" جملة مستأنفة وردت على سبيل التمثيل، للتنبيه بالشاهد على الغائب.
والحمى: المَحْمِى، أطلق المصدر على اسم المفعول. وفي اختصاص التمثيل بذلك نكتة، وهي أن ملوك العرب كانوا يحمون لمراعي مواشيهم أماكن مختصة كانوا يستعوون كلبًا على موضع عال، وحيث انتهى صوته يحمونه لمواشيهم، ويتوعدون من يرعى فيه بغير إذنهم بالعقوبة الشديدة، فمثل لهم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بما هو مشهور عندهم، فالخائف من العقوية المراقب لرضى الملك يبعد عن ذلك الحمى خشية أن تقع مواشيه في شيء منه، فبعدُهُ أسلمُ له ولو اشتد حذره، وغير الخائف المراقب يقرب منه، ويرعى من جوانبه، فلا يأمن من أن تنفرد الفاذَّةُ فتقع فيه بغير أختياره، أو يُمْحِل المكان الذي هو فيه، ويقع الخصب في الحمى، فلا يملك نفسه أن يقع فيه.
ولما جاء الإِسلام، بطل ما كان يفعله رؤساء العرب من الحمى، وقال صلى الله تعالى عليه وسلم كما أخرجه البخاري في المساقاة:"لا حمى إلا لله في رسوله" وصار الحمى خاصًّا بالخلفاء، قيل: والولاة، وهو أن يحمي الخليفة موضعًا لرعي مواشي الصدقة ومواشي فقراء المسلمين، وقد حمى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم النقيع -بالنون- وهو على عشرين فرسخًا من المدينة، وقدره ميل في ثمانية أميال، وحمى عمر رضي الله تعالى عنه الرَّبَذَة -بالتحريك- وهو موضع معروف بين مكة والمدينة، واستعمل عليه مولاه هنيّ، أخرجه في "الموطأ" بطوله آخر