وقوله: إن هذا هو أعلى الورع مخالف لما فسر به العلماء الورِع والأوْرع، فإنهم قالوا: الورع هو الذي يتقي الشبهات خوف الوقوع في المحرمات، والأورع هو الذي يتقي بعض المباحات خوف الوقوع في الشبهات، ويمكن أن يكون فعل ابن أدهم من هذا المعنى الأخير.
وقد قال البخاري في كتاب البيوع في باب تفسير الشبهات: قال حسان بن أبي سنان: ما رأيت شيئًا أهون من الورع، دع ما يَريبُك إلى ما لا يريبُك.
ومن الورع ما حكاه العَيْني عن أبي حنيفة وسُفيان الثوري أنهما قالا: لأنْ أخِرَّ من السماء أهونُ عليَّ من أن أُفتي بتحريمِ قليل النبيذِ، وما شربته قط، ولا أشربه. فعملا بالترجيح في الفتيا، وتورعا عنه في أنفسهما.
وقال بعض المحققين: من حكم الحكيم أن يوسع على المسلمين في الأحكام، ويضيق على نفسه، يعني به هذا المعنى.
قلت: أدركت والدي رحمه الله تعالى جاريًا على هذا السَّنن في عباداته، آخذًا على نفسه بالتضييق، لا يترخص في شيء منها، بل يعمل دائمًا بالأشق الأحْمَز، ويفتي الناس دائمًا بما فيه لهم رخصة، مخافة أن يتكاسلوا عن العمل بالأشق، فيتركوا العمل رأسًا.
ثم قال: ومنشأ هذا الورع الالتفات إلى إمكان اعتبار الشرع ذلك المرجوح، وهذا الالتفات ينشأ من القول بان المُصيب واحد، وهو مشهور مذهب مالك، ومنه ثار القول في مذهبه بمراعاة الخلاف، وكذلك كان الشافعي رحمه الله تعالى أيضًا يراعي الخلاف، حيث لا تفوت به سنة في مذهبهم.
قلت: هذا القيد شرط في مراعاته عندنا معاشر المالكية، ويشترط عندنا أن لا تؤدي مراعاته إلى ارتكاب مكروه.