تفرضها البلديات تحول دون تداول البضائع (١٠٤)، كما كان يعطل هذا التداول أحياناً إرغام أصحاب التجارة العابرة على أن يعرضوا بضاعتهم للبيع في المدينة قبل أن تخرج منها (١٠٥). وكان يحدث في تلك الأيام ما يحدث في أيامنا هذه فيحتال بعض المواطنين المتمردين للخروج على هذه القواعد؛ كما كانت الأسواق السوداء كثيرة العدد (١٠٦)، وكانت الأضرار الناشئة من بعض هذه القيود أكثر من نفعها، ولهذا أهملت بعد زمن قليل.
غير أننا يحق لنا نقول بوجه عام أن قامت بها الحكومات المحلية لمدائن العصور الوسطى من أعمال ينطق بمهارة رجال الأعمال الذين كانوا يشرفون عليها وبشجاعتهم. فقد استعملت أوربا بفضل توجيههم الحكيم في القرنين الثاني عشر والثالث عشر برخاء لم تعرف له مثيلاً منذ سقوط روما. وتكاثر سكان أوربا في عهد هذا النظام تكاثراً لم يكن له نظير منذ ألف عام على الرغم من انتشار الأوبئة والمجاعات والحروب. وكان أولئك السكان قد أخذوا يتناقصون في القرن الثاني، وأكبر الظن أنهم وصلوا إلى الحد الأدنى في القرن التاسع؛ ثم أخذ عددهم يزداد مرة أخرى في الفترة الواقعة بين القرن الحادي عشر والموت الأسواد (١٣٤٩) بفضل انتعاش التجارة والصناعة؛ ويغلب على الظن أن أهل الإقليم المحصور بين الموزل والرين قد تضاعفوا عشرة أضعاف، ولعلهم بلغوا في فرنسا عشرين مليوناً، أي أنهم لا يكادون يقلون عما كانوا عليه في القرن الثاني عشر (١٠٧). وقد كان من آثار الثورة الاقتصادية أن أخذ السكان يهاجرون من القرى إلى المدن. نعم إن القسطنطينية البالغ عدد سكانها ٨٠٠. ٠٠٠، وقرطبة وبالرم البالغ عدد سكانهما نصف مليون كانتا مزدحمتين بالسكان من زمن بعيد؛ ولكن عدداً قليلاً من المدن القائمة في شمال جبال الألب هي التي كان يسكنها قبل عام ١١٠٠ أكثر من ثلاثة آلاف نسمة (١٠٨).