توجه في الزمن القديم، وإن كان في ذلك عظيماً في ذلك الوقت نفسه؛ فقد حرمت الفقراء في معظم المدن من المجالس والوظائف العامة، واستبدت بالفلاح والصانع، واحتكرت مكاسب التجارة، وأرهقت الأهلين بالضرائب الفادحة، وأنفقت معظم إيراد الحكومة المحلية في المنازعات الداخلية أو الحروب الخارجية التي تبغي بها الاستحواذ على الأسواق والقضاء على المنافسين. وحاولت أن تقضي على هيئات الصناع، وحرمت عليهم حق الإضراب، وإلا تعرضوا للإعدام أو النفي، وكان ما تضعه من القواعد لتحديد الأثمان والأجور يهدف إلى مصالحها هي، والى إلحاق الأذى الشديد بالطبقة العاملة (١٠٠). وحدث وقتئذ ما حدث في أيام الثورة الفرنسية، فكانت هزيمة سادة الإقطاع نصراً لطبقة رجال الأعمال أكثر مما كانت لسائر الطبقات.
غير أن الحكومات المحلية للمدن كانت على الرغم من هذه المساوئ تأكيداً جليلاً للحرية الإنسانية؛ فقد كان سكان المدينة إذا سمعوا دقات الجرس من برجها يسارعون إلى الاجتماع ليختاروا حكامها، وكان للمدن جيشها الإقليمي الخاص بها، تدافع به عن نفسها أقوى الدفاع، حتى استطاعت أن تهزم به جيوش الإمبراطور المدربة في لنيانو (١١٧٦)، وحاربت به بعضها البعض حتى أنهكت قواها جميعاً. نعم إن مجالسها الإدارية لم تلبث أن ضعف نظامها حتى أضحت أرستقراطية من التجار، ولكن الجمعيات البلدية كانت أولى الحكومات النيابية منذ عهد تيبيريوس، وكانت هي لا العهد الإنجليزي الأعظم Magns Carta مبدأ الديمقراطية الحديثة (١٠١)؛ وهي التي أحلت مناقشة الشهود مناقشة قانونية منظمة محل البقايا الرجعية للقوانين والقبلية- الأيمان، والمبارزة، والتحكيم الإلهي- واستبدلت بالفداء أو ثمن الدم الغرامات أو السجن، أو العقاب البدني، وهي التي قللت من المماطلة والتأجيل في تطبيق القانون، وأحلت التعاقد القانوني محل العلاقات الإقطاعية والولاء الإقطاعي، ونشأت فيها