للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المدينة قصر الخليفة المسمى "بالباب الذهبي" نسبة إلى بابه المذهب أو "القبة الخضراء" نسبة إلى قبته البراقة. ثم شاد المنصور في خارج أسوار المدينة على الضفة الغربية لنهر دجلة مسكناً صيفياً له عرف باسم "قصر الخلد"، وكان هرون الرشيد يقيم في هذا القصر معظم أيامه. وكان في وسع من يقيم في هذين القصرين أن يرى من نوافذهما مئات السفن تفرغ على أرصفة النهر أحمالها التي جاءت بها من نصف العالم المعروف.

وفي عام ٧٦٨ أنشأ المنصور قصراً ومسجداً على ضفة النهر الشرقية الفارسية لكي يستطيع ولده المهدي أن يتخذ له في القصر مسكناً مستقلاً، وسرعان ما نشأت حول هذين الصرحين ضاحية جميلة هي ضاحية الرصافة (١) التي كان يصلها بالمدينة المستديرة جسران قائمان على قوارب. وكان معظم الخلفاء الذين جاءوا بعد المأمون يقيمون في هذه الضاحية، ولهذا فإنها سرعان ما فاقت مدينة المنصور نفسها في اتساعها وثرائها، وكان الناس بعد الرشيد إذا ذكروا بغداد فإنما يعنون بها الرصافة نفسها. وكانت شوارع ضيقة ملتوية، أنشئت على هذا النحو لتقي الأهلين من وهج الشمس وتقوم على جانبيها الحوانيت الصاخبة، تمتد من القصور الملكية إلى أحياء الأثرياء، وكان لكل طوائف الصناع شارعها الخاص أو سوقها الخاص أو سوقها الخاصة-فهذا حي بائعي العطور، وذاك حي صانعي السلال، وهنا حي صانعي الأسلاك، وهناك حي الصيارفة مستبدلى النقود، وذاك حي البزازين، وهذا حي الوراقين وما إلى ذلك. وكانت بيوت الأهلين تقوم فوق هذه الحوانيت ومن ورائها. وكانت كل المساكن تقريباً ما عدا مساكن الأغنياء مقامة من اللبن، تبقي صاحبها حياً ولكنها لا تدوم كثيراً بعده. وليس لدينا إحصاء لسكان المدينة موثوق بهِ، والراجح أنهم كانوا يبلغون


(١) الرصافة ككناسة بلد بالشام ومحله ببغداد، وبلد بالبصرة، وبلد بالأندلس؛ وبلد بأفريقية. (المترجم)