[الإفتاء]
المفتي
جاد الحق على جاد الحق
الجواب
المعنى اللغوى: فى لسان العرب أفتاه فى الأمر أبانه له وأفتى الرجل فى المسألة واستفتيته فيها فأفتانى افتاء وأفتى المفتى إذا أحدث حكما وقوله تعالى {يستفتونك قل الله يفتيكم} النساء ١٧٦، أى يسألونك سؤال تعلم.
والفتيا بالياء وضم الفاء والفتوى بالواو وضم الفاء والفتوى بالواو وفتح الفاء ما أفتى به الفقيه.
وفى المصباح المنير والفتوى بالواو، بفتح الفاء، وبالياء فتضم، اسم من أفتى العالم إذا بين الحكم، واستفتيه سألته أن يفتى، ويقال أصله من الفتى وهو الشاب القوى، والجمع الفتاوى بكسر الواو على الأصل، وقيل يجوز الفتح للتخفيف.
ومن قبيل هذا قول الله تعالى {ويستفتونك فى النساء قل الله يفتيكم فيهن} النساء ١٢٧، وقوله {أفتونى فى رؤياى} يوسف ٤٣، وقوله سبحانه {فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنا} الصافات ١١، وفى الحديث الشريف (إن أربعة تفاتوا إليه عليه السلام) أى طلبوا منه الفتوى.
ومن هذا جاء الحديث الشريف أيضا (الإثم ما حاك فى صدرك وإن أفتاك الناس وأفتوك) أى وإن جعلوا لك فيه رخصة وأجازوه، وقد جاء هذا فى صحيح مسلم بلفظ (والإثم ما حاك فى نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس) .
وفى مسند أحمد بلفظ (والإثم ما حاك فى القلب وتردد فى الصدر وإن أفتاك الناس أفتوك) .
معنى الإفتاء شرعا يؤخذ مما قال به علماء الفقه وأصوله أن الإفتاء بيان حكم الله تعالى بمقتضى الأدلة الشرعية على جهة العموم والشمول.
وفى كتاب الموافقات للشاطبى (ج ٤ ص ٢٤٤ وما بعدها فى فتوى المجتهد بتصرف) المفتى قائم فى الأمة مقام النبى صلى الله عليه وسلم لأن العلماء ورثة الأنبياء كما يدل عليه الحديث الشريف (إن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم) (فى الترغيب والترهيب للمنذرى بروايته وزيادات أخرى) .
ولأن المفتى نائب فى تبليغ الأحكام ففى الأحاديث الشريفة (ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب) (البخارى فى خطبته صلى الله عليه وسلم بمنى) و (بلغوا عنى ولو آية) (المرجع السابق فيما يذكر عن بنى اسرائيل ورواه أيضا أحمد والترمذى) و (تسمعون ويسمع منكم ويسمع ممن يسمع منكم) (رواه أحمد وأبو داود والحاكم عن ابن عباس وهو حديث صحيح (وإذا كان كذلك فهو معنى كونه قائما مقام النبى.
مكانة الإفتاء جاء فى المجموع للإمام النووى شرح المهذب للشيرازى اعلم أن الإفتاء عظيم الخطر كبير الموقع كثير الفضل، لأن المفتى وارث الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وقائم بفرض الكفاية لكنه معرض للخطأ (ص ٤٠ طبع ادارة الطباعة المنيرية ١٣٤٤ هجرية) ولهذا قالوا المفتى موقع عن الله تعالى.
وفى الدر المختار للحصكفى وحاشيته رد المختار لابن عابدين الفاسق (ج ٤ ص ٤١٨ فى كتاب القضاء) لا يصلح مفتيا لأن الفتوى من أمور الدين والفاسق لا يقبل قوله فى الديانات، ابن ملك، زاد العينى واختاره كثير من المتأخرين وجزم به صاحب المجمع فى متنه وهو قول الأئمة الثلاثة أيضا وظاهر ما فى التحرر أنه لا يحل استفتاؤه إتفاقا.
وفى كتاب الفروق للقرافى قال مالك لا ينبغى للعالم أن يفتى حتى يراه الناس أهلا للفتوى ويرى هو نفسه أهلا لذلك (ج ٢ ص ١١٠ مع هامشه تهذيب الفروق بتصرف) ، يريد ظهور أهليته عند العلماء وثبوتها.
وهذه المعانى مرددة فى عامة كتب فقهاء المذاهب تحرجا من التسرع فى الفتوى وفى هذا قال ابن القيم فى أعلام الموقعين كان السلف من الصحابة والتابعين يكر هو التسرع فى الفتوى ويود كل واحد منهم أن يكفيه إياها غيره، فإذا رأى أنها قد تعينت عليه بذل اجتهاده فى معرفة حكمها من الكتاب والسنة أو قول الخلفاء الراشدين ثم أفتى (ج ١ ص ٢٧ طبع إدارة الطباعة المنيرية وانظر كشاف القناع على فن الاقناع للبهوتى الحنبلى ج ٦ ص ٢٤٠ وما بعدها فى أحكام تتعلق بالفتيا) .
حكم الإفتاء تكاد نصوص (المجموع للنووى ج ١ ص ٢٧، ص ٤٥ والبحر الرائق لابن نجيم الحنفى ج ٦ ص ٢٩٠ والفروق للقرانى ج ٤ ص ٨٩، ومنتهى الارادات للبهوتى الحنبلى ج ٤ ص ٢٥٧ بهامش كشاف القناع) الفقهاء تتفق على أن تعليم الطالبين وإفتاء المستفتين فرض كفاية، فإن لم يكن وقت حدوث الواقعة المسئول عنها إلا واحد، تعين عليه، فإذا استفتى وليس فى الناحية غيره تعين عليه الجواب، فإن كان فيها غيره وحضر فالجواب فى حقهما فرض كفاية، وإن لم يحضر غيره وجهان أصحهما لا يتعين والثانى يتعين.
أول من قام بالإفتاء كان هذا مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان يفتى بوحى من الله سبحانه، كما تشير إليه آيات القرآن الكريم، وقد كانت الفتوى ينزل بها القرآن أو يخبر بها صلوات الله عليه وسلامه بجوامع كلمه مشتملة على فصل الخطاب، وهذه الأخيرة من السنة الشريفة فى المرتبة الثانية من كتاب الله تعالى، ما لم تنقل متواترة ليس لأحد من المسلمين العدول عن العمل بها أو القعود عن اتباعها، بل على كل مسلم الأخذ بها متى صحت امتثالا لقوله تعالى {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} الحشر ٧، وقوله {فإن تنازعتم فى شىء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} النساء ٥٩، ومن بعده - صلى الله عليه وسلم - قام بالفتوى الفقهاء من الصحابة والتابعين، وقد أورد ابن حزم (الأحكام فى أصول الأحكام ج ٥ ص ٨٩ وما بعدها فى الباب الثامن والعشرين) رحمه الله تعالى، أسماء عدد كثير من الصحابة والتابعين الذين تصدوا للإفتاء، منسوبين إلى البلاد التى أفتوا فيها.
وأفاض فى تعداد المفتين من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين العلامة ابن القيم فى كتابه أعلام (ج ١ ص ٨ إلى ٣١ الطبعة السابقة) الموقعين مبينا أصول فتاوى الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى مقارنة بما لدى الأئمة الآخرين من أصول فى هذا الموضع.
من يتصدى للإفتاء فى الإسلام إن أمر الدين خطير وعظيم، من أجل هذا حرمي الله القول فيه بغير علم، بل وجعله فى المرتبة العليا من التحريم، ذلك - والله أعلم - قوله سبحانه {قل إنما حرم ربى الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغى بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} الأعراف ٣٣، وذلك أيضا - والله أعلم - قوله تعالى {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون} النحل ١١٦، ففى الآية الأولى رتب الله الحكيم فى تشريعه المحرمات بادئا بأخفها الفواحش ثم مبينا ما هو أشد الإثم والظلم - ثم بكبيرها {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} وهذا عام فى القول فى ذات الله وصفاته ودينه وتشريعه.
وفى الآية الأخرى أبان الله سبحانه أنه لا يجوز للمسلم أن يقول أن هذا حرام وهذا حلال، إلا إذا علم أن الله سبحانه وتعالى حرمه أو أحله.
وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الحديث الصحيح أميره (بريدة) أن ينزل عدوه إذا حاصرهم على حكم الله وقال (فإنك لا تدرى أتصيب حكم الله فيهم أم لا ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك) وفى سنن أبى داود من حديث مسلم بن يسار قال سمعت أبا هريرة يقول قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (من قال على ما لم أقل فليتبوأ بيتا فى جهنم ومن أفتى بغير علم كان إثمه على من أفتاه ومن أشار على أخيه بأمر يعلم الرشد فى غيره فقد خانه) ومن هذا نعلم خطر الفتوى بدون علم، لأن الفتوى تعتبر شريعة عامة تشيع بين الناس فتعم المستفتى وغيره، فوجب الإلتزام بالإفتاء بنصوص الشريعة والتوقف إذا عز البيان.
ولقد كان من ورع الأئمة المجتهدين إطلاق لفظ الكراهة على ما يرونه محرما تحرزا من القول بالتحريم الظاهر فى أمر لم يقطع به نص شرعى وخروجا من مظنة الدخول فى نطاق قول الله سبحانه {قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون} يونس ٥٩، الحلال ما أحله الله ورسله، والحرام ما حرمه الله ورسوله (من اعلام الموقعين لابن القيم ج ١ ص ٣١ ٣٦ بتصرف (ومن ثم كان حتما أن تتوافر فيمن يتصدى للافتاء الأهلية التامة، وقد اختلفت كلمة فقهاء المذاهب فى مدى الأهلية للافتاء ففى الفقه الحنفى أنه لا يفتى إلا المجتهد (البحر الرائق لابن نجيم المصرى شرح كنز الدقائق ج ٦ ص ٢٨٩ وما بعدها) ، فقد استقر رأى الأصوليين على أن المفتى هو المجتهد فأما غير المجتهد ممن حفظ أو يحفظ أقوال المجتهدين فالواجب عليه إذا سئل أن ينسب القول الذى يفتى به لقائله على جهة الحكاية عنه، وطريق نقل أقوال المجتهدين أحد أمرين.
الأول أن ينقله من أحد الكتب المعروفة المتداولة نحو كتب محمد بن الحسن وأمثالها من التصانيف المشهورة، لأنه وقتئذ بمنزلة الخبر المتواتر والمشهور.
الثانى أن يكون له سند فيه بأن تلقاه رواية عن شيوخه.
وفى الفقه المالكى: قال ابن رشد فى صفة المفتى إن الجماعة التى تنسب إلى العلوم وتتميز عن جملة العوام بالحفظ والفهم ثلاث طوائف (مواهب الجليل مع التاج والاكليل كلاهما شرح مختصر سيدى خليل ج ٦ ص ٩٤، ٩٥) .
الأولى طائفة تبعت مذهب مالك تقليدا بغير دليل، فحفظت مجرد أقواله وأقوال أصحابه فى مسائل الفقه دون التفقه فيها للتعرف على صحيحها والبعد عن سقيمها.
الثانية طائفة تبعت المذهب لما بان لها من صحة الأصول التى انبنى عليها وحفظ أقوال إمامه وأقوال أصحابه فى مسائل الفقه وفقهت معانيها وعلمت صحيحها وسقيمها ولكنها لم تبلغ درجة معرفة قياس الفروع على الأصول.
الثالثة طائفة تبعت المذهب لما انكشف لها صحة اصوله لكونها عالمة بأحكام القرآن والسنة عارفة بالناسخ والمنسوخ والمفصل والمجمل والعام والخاص والمطلق والمقيد، جامعة لأقوال العلماء من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار، حافظة لما كان موضع وفاق وما جرى فيه الخلاف.
ولا تجوز الفتوى للطائفة الأولى وإن كان لها العمل بما علمت، وللطائفة الثانية أن تفتى بما علمته صحيحا من قول إمام المذهب وغيره من فقهائه، أما الطائفة الثالثة فهى الأهل للفتوى عموما.
وفى الفقه الشافعى أن المفتين قسمان مستقل وغير مستقل (المجموع للنووى شرح المذهب للشيرازى ج ١ ص ٤٢ وما بعدها) .
القسم الأول المفتى المستقل، وشرطه معرفة أدلة الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وما يشترط فى هذه الأدلة ووجوه دلالتها واستنباط الأحكام منها على ما هو مفصل فى علم أصول الفقه، واشتراط حفظ مسائل الفقه إنما هو فى المفتى الذى يتأدى به فرض الكفاية ولا يشترط هذا فى المستقل المجتهد.
القسم الثانى المفتى غير المستقل، وهو المنتسب لأحد المذاهب تكون فتواه نقلا لقول إمام المذهب أو أحد أصحابه المجتهدين، ويتأدى به فرض الكفاية، وله أن يفتى بما لا نص فيه لإمامه تخريجا على أصوله إذا توافرت فيه شروط التخريج، وجملتها علمه بفقه المذهب واصوله وأدلته تفصيلا ووجوه القياس، أما من يحفظ مسائل فقه المذهب دون بصر بالأدلة والأقيسة، فهذا لا تجوز له الفتوى إلا بما يجده منقولا عن إمام وتفريعات المجتهدين فى المذهب، وما لا يوجد منقولا ويتدرج تحت قاعدة عامة من قواعد المذهب، أو يلتحق بفرع من فروعه ظاهر المأخذ جازت له الفتوى وإلا أمسك عنها.
وفى فقه مذهب الإمام أحمد بن حنبل (روضة الناظر وأصول الفقه لابن قدامة المقدى ج ٢ ص ٤٤١) أن المجتهد الظان بالحكم لا يقلد غيره، وأن العامى المحض يقلد غيره وأن من توافرت لديه أهلية الاجتهاد ولكنه لم يجتهد مختلف فيه، والأظهر أنه لا يقلد، ويلحق به من اجتهد بالفعل ولم يظن الحكم، لتعارض الأدلة أو غيره، أما المتمكن فى بعض الأحكام دون البعض فالأشبه أنه يقلد لأنه عامى من وجه ويحتمل أن لا يقلد لأنه مجتهد من وجه.
وفى أعلام الموقعين لابن القيم (ج ١ ص ٨ وما بعدها) ولما كان التبليغ عن الله سبحانه يعتمد العلم بما يبلغ والصدق فيه لم تصلح مرتبة التبليغ بالرواية والفتيا إلا لمن اتصف بالعلم والصدق، فيكون عالما بما يبلغ صادقا فيه ويكون مع ذلك حسن الطريقة مرضى السيرة عدلا فى أقواله وأعماله متشابه السر والعلانية فى مدخله ومخرجه وأحواله وأن يعلم قدر المقام الذى أقيم فيه، ولا يكون فى صدره حرج من قول الحق والصدع به فإن الله ناصره وهاديه.
آداب المفتى فى الفقه الحنفى (الفتاوى الهندية ج ٣ ص ٣٠٩، ٣١٠ والبحر الرائق لابن نجيم ج ٦ ص ٢٩١، ٢٩٢) أن الإفتاء فيما لم يقع غير واجب وأنه يحرم التساهل فى الفتوى واتباع الميل ولا ينبغى الإفتاء إلا لمن عرف أقاويل العلماء وعرف من أين قالوا فإن كان فى المسألة خلاف لا يختار قولا يجيب به حتى يعرف حجته، والفتوى جائزة من كل مسلم بالغ عاقل حافظ للروايات واقف على الدرايات محافظ على الطاعات مجانب للشهوات والشبهات سواء كان من توافر فيه كل هذا رجلا أو امرأة، شيخا أو شابا.
وقد أفصح فقهاء المالكية (التاج والاكليل للحطاب مع مواهب الجليل ج ٦ ص ٩١ وما بعدها) والشافعية (المجموع للنووى شرح المهذب ج ١ ص ٤٥ وما بعدها) والحنابلة (كشاف القناع للبهوتى الحنبلى ج ٦ ص ٢٤٢ وما بعدها) عن آداب المفتى بما يقرب من هذه المعانى.
ولقد أفاض ابن القيم (أعلام الموقعين ج ٤ ص ١٣٦ وما بعدها) فى بيان آداب الفتوى فأورد فوائد جمة للمفتى والمستفتى يحسن بكل من يتصدى للإفتاء فى دين الله وشرعه أن يحصلها.
وقد روى عن الإمام أحمد بن حنبل (كشاف القناع سالف الذكر ص ٢٤٠) قوله لا ينبغى أن يجيب المفتى فى كل ما يستفتى فيه، ولا ينبغى للرجل أن يعرض نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال.
احداها أن يكون له نية أى أن يخلص فى ذلك لله تعالى ولا يقصد رياسة أو نحوها.
والثانية أن يكون على علم وحلم ووقار وسكينة وإلا لم يتمكن من بيان الأحكام الشرعية.
الثالثة أن يكون قويا على ما هو فيه وعلى معرفته.
الرابعة الكفاية وإلا أبغضه الناس، فإنه إذا لم يكن له كفاية احتاج إلى الناس وإلى الأخذ مما فى أيديهم فيتضررون منه.
الخامسة معرفة الناس، أى أنه يجب عليه أن يعرف نفسية المستفتى وأن يكون ذا بصيرة نافذة يدرك بها أثر فتواه وانتشارها بين الناس.
ولقد أبرز الإمام الشاطبى (الموافقات ج ٤ ص ٢٥٨ وما بعدها طبع المكتبة التجارية تحقيق المرحوم الشيخ عبد الله دراز) ما ينبغى أن يكون عليه المفتى باعتباره هاديا ومرشدا وأن فتواه مدار لإصلاح الناس فقال المفتى البالغ ذروة الدرجة هو الذى يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور، فلا يذهب بهم مذهب الشدة ولا يميل بهم إلى طرق الانحلال.
والدليل على صحة هذا أنه الصراط المستقيم الذى جاءت به الشريعة لأن مقصد الشارع من المكلف الحمل على التوسط من غير إفراط ولا تفريط ثم أورد الأدلة على هذا المذهب من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأضاف أن الميل إلى الرخص فى الفتوى بإطلاق يكون مضادا للمشى على التوسط كما أن الميل إلى التشديد مضاد له أيضا.
ومن ثم كان على المفتى أن يعالج حال الناس بالرخص التى سهل الله بها لعباده كإباحة المحظورات عند الضرورات، فإذا أدت العزيمة إلى الضيق كانت الرخصة أحب إلى الله من العزيمة {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} البقرة ١٨٥، {وما جعل عليكم فى الدين من حرج} الحج ٧٨، والذى يحذره المفتى أن يتحرى الفتوى بالقول الذى يوافق هوى المستفتى، لأن اتباع الهوى ليس من المشقات التى يترخص بسببها، والخلاف بين المجتهدين رحمة، والشريعة حمل على الوسط لا على مطلق التخفيف ولا على مطلق التشديد، ثم قال الشاطبى إذا ثبت أن الحمل على التوسط هو الموافق لقصد الشارع وهو الذى كان عليه السلف الصالح، فلينظر المقلد أى مذهب كان أجرى على هذا الطريق، فهو أخلق بالاتباع وأولى بالاعتبار، وإن كانت المذاهب كلها طرقا إلى الله ولكن الترجيح فيها لابد منه لأنه أبعد من اتباع الهوى.
هذا فإذا كان المفتى لم تتوافر لديه أدوات الاجتهاد وشروطه فهل له أن يتخير من أقوال فقهاء المذاهب ما يكون أيسر للناس لا نزاع فى أن المفتى إذا استطاع أن يميز بين الأدلة ويختار من فقه المذاهب المنقولة نقلا صحيحا على أساس الاستدلال كان له أن يتخير فى فتواه ما يراه مناسبا، ولكن عليه أن يلتزم فى هذا بأربعة قيود (الموافقات للشاطبى ج ٤ ص ١٣٩ وما بعدها) .
الأول ألا يختار قولا ضعف سنده.
الثانى أن يختار ما فيه صلاح أمور الناس والسير بهم فى الطريق الوسط دون إفراط أو تفريط.
الثالث أن يكون حسن القصد فيما يختار مبتغيا به رضا الله سبحانه متقيا غضبه، وغير مبتغ إرضاء حاكم أو هوى مستفت.
الرابع ألا يفتى بقولين معا على التخيير مخافة أن يحدث قولا ثالثا لم يقل به أحد.
ولا تجوز (كشاف القناع للبهوتى الحنبلى ج ٦ ص ٢٤٢) الفتوى فى علم الكلام، بل ينهى عنها ولا يجوز للمفتى أن يفتى فيما يتعلق باللفظ كالطلاق والأيمان والأقارير بما اعتاده هو من فهم تلك الألفاظ أو بمعناها لغة وإنما عليه أن يتعرف عرف أهلها والمتكلمين بها ويحملها على ما اعتادوه وعرفوه، وإن كان الذى اعتادوه مخالفا لحقائق هذه الألفاظ اللغوية، لأن الأيمان وأمثالها مبناها العرف، بمعنى أن ما تعارف عليه الناس من معنى اللفظ مقدم على حقيقته المهجورة.
وحقيق بالمفتى أن يكثر الدعاء بالحديث الصحيح (اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون.
اهدنى لما اختلفت فيه من الحق بإذنك إنك تهدى من تشاء إلى صراط مستقيم) ويقول إذا أشكل عليه شىء يا معلم إبراهيم علمنى.
للخبر الوارد فى ذلك.
آداب المستفتى قال الإمام الشاطبى فى الموافقات (ج ٤ ص ٢٦٢ وراجع فى هذا المعنى أيضا - البحر الرائق لابن نجيم المصرى الحنفى ج ٦ ص ٢٩٠، ٢٩١ والحطاب وبهامشة التاج والأكليل فى فقه مالك ج ١ ص ٣٢ وج ٦ ص ٩٢ وما بعدها.
والمجموع للنوى شرح المهذب للشيرازى الشافعى ج ١ من ص ٥٤ إلى ص ٥٨ وكشاف القناع للبهوتى الحنبلى ج ٦ ص ٢٤٦) إن السائل لا يصح له أن يسأل من لا يعتبر فى الشريعة جوابه لأنه إسناد أمر إلى غير أهله والإجماع على عدم صحة مثل هذا لأن السائل إذا سأل من ليس أهلا لما سئل عنه فكأنما يقول له أخبرنى عما لا تدرى وأنا أسند أمرى لك فيما نحن بالجهل فيه سواء.
ويؤخذ من هذا أن المسلم إذا جهل أمرا من أمور دينه وجب عليه أن يسأل من هو أهل لإفادته وأن يتحرى ذلك كالمريض الذى يبحث عن الطبيب المتخصص فيما ألم به، ونحن نرى فى واقعنا كيف يجهد الإنسان نفسه وغيره من المحيطين به فى السؤال والتقصى عن طبيب اشتهر فى علاج داء من الأدواء الجسدية أو النفسية فأولى تصحيحا لالتزاماتنا الدينية ألا نلجأ فى الاستفتاء فى أمور الدين إلا لأهل الذكر فيها إمتثالا لقول الله تعالى تعليما وتوجيها {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} الأنبياء ٧، ويجب على السائل أن يتجه بسؤاله عن المفيد فى أمر التكليف فى دينه يرشدنا إلى هذا قول الله تعالى {يسألونك عن الأهلة قل هى مواقيت للناس والحج} البقرة ١٨٩، فالسؤال فى هذه الآية كان مقصودا به بيان حالات الهلال كيف يولد ولم يبد فى أول الشهر دقيقا كالخيط ثم يتسع ويكبر بمضى الأيام حتى يصير بدرا ثم يعود إلى حالته الأولى ولكن الجواب فى الآية كان صارفا للسائلين عن هذا القصد موجها لهم إلى ما ينبغى السؤال عنه وهو ما يتعلق بالهلال من أحكام شرعية ومواقيت وهذا من الأسلوب الحكيم الذى أريد به توجيه السائل إلى ما هو الأليق بحاله فى السؤال بتوجيه الفكر إلى ثمرة من ثمرات طريق سير الهلال فى مجراه بدلا من الدخول فى مناقشات قد لا يفهمها السائل بل ويعسر فهمها على الكثيرين.
ومن هذا القبيل جواب الرسول - صلى الله عليه وسلم - لسائله عن الساعة أى القيامة بقوله - ماذا أعددت لها إذا صرفه هذا جواب إلى ما ينبغى عمله والاستعداد به.
آداب الفتوى تحدث الفقهاء عن هذه الآداب فى نواحى شتى بدور أكثرها على طريقة تفهم السؤال والإجابة عليه، وحفظ الترتيب والعدل بين المستفتين فلا يميل إلى الأغنياء وذوى النفوذ ويقدم أجوبتهم على الفقراء ولا يجوز الإفتاء بقول مهجور جدا لمنفعة يرجوها، ويلزم المفتى أن يبين الجواب بيانا يزيل الإلتباس، وليكتب بخط واضح بعبارة واضحة صحيحة تفهمها العامة ولا يزدريها الخاصة، وعليه أن يعيد النظر فيما كتب للاستيثاق من صحته وسلامته وعدم إخلاله ببعض المسئول عنه، واستحسن الفقهاء كذلك للمفتى أن يبدأ فتاويه بالدعاء ببعض الأدعية المأثورة طلبا للتوفيق من الله سبحانه وأن يختصر جوابه ويكون بحيث تفهمه العامة، ولا يميل مع المستفتى أو مع خصمه، ولا يفتى فيما تدفع به الدعاوى، وينبغى للمفتى إذا رأى للسائل طريقا يرشده إليه أن ينبهه عليه ما لم يضر غيره ضررا دون حق كمن حلف لا ينفق على زوجته يفتى بأن يعطيها قرضا أو بيعا ثم يبريها وكما حكى أن رجلا قال لأبى حنيفة رحمه الله حلفت أن أطأ امرأتى فى نهار رمضان ولا أكفر ولا أقضى فقال سافر بها.
ولا يسوغ لمفت إذا استفتى أن يتعرض لجواب غيره برد ولا تخطئة ويجيب بما عنده من موافقة أو مخالفة، وليس بمنكر أن يذكر المفتى فى فتواه الحجة إذا كانت نصا واضحا مختصرا لاسيما إذا أفتى فقيها أما إذا أفتى عاميا فلا يذكر الحجة، والأولى أن يبين فى المسائل الخلافية سند ومصدر القول الذى أفتى به (البحر الرائق لابن نجيم المصرى الحنفى ج ٦ ص ٢٩٢ والحطاب والتاج والأكليل فقه مالكى ج ٦ ص ٢٩٥، ٢٩٦ والمجموع للنووى شرح المهذب للشيرازى ج ١ ص ق٤٧ - ٥٤ والفقيه والمتفقه للخطيب ج ٢ ص ١٨٢ إلى ١٩٤ وكشاف القناع للبهوتى الحنبلى ج ٦ ص ٣٤ إلى ٢٤٦) .
الإفتاء والقضاء المفتى مخبر عن الحكم للمستفتى والقاضى ملزم بالحكم وله حق الحبس والتعزيز عند عدم الامتثال كما أن له إقامة الحدود والقصاص (تاريخ القضاء فى الإسلام للقاضى محمود عرنوس ص ١٦٠) وفى الفقه المالكى (تهذيب الفروق بهامش الفروق للقرافى ج ٤ ص ٨٩ ٩٢) قاعدة الفتوى وقاعدة الحكم وإن كان كل منهما خبرا عن الله تعالى ويجب على السامع اعتقاد ذلك ويلزم المكلف.
إلا أن بينهما فرقا من وجهين.
الأول أن الفتوى محض إخبار عن الله تعالى فى إلزام أو إباحة، أما الحكم فاخبار مآله الإنشاء والألزام، فالمفتى - مع الله تعالى - كالمترجم مع القاضى ينقل عنه ما وجده عنده وما استفاده من النصوص الشرعية بعبارة أو إشارة أو فعل أو تقرير أو ترك، والحاكم (القاضى) - مع الله تعالى - كنائب ينفذ ويمضى ما قضى به - موافقا للقواعد - بين الخصوم.
والوجه الثانى أن كل ما يأتى فيه الحكم تتأتى فيه الفتوى ولا عكس.
ذلك أن العبارات كلها لا يدخلها الحكم (القضاء) ، وإنما تدخلها الفتيا فقط فلا يدخل تحت القضاء الحكم بصحة الصلاة أو بطلانها وكذلك أسباب العبادات كمواقيت الصلاة ودخول شهر رمضان وغير هذا من أسباب الأضاحى والكفارات والنذور والعقيقة لأن القول فى كل ذلك من باب الفتوى وإن حكم فيها القاضى ومن ثم كانت الأحكام الشرعية قسمين.
الأول ما يقبل حكم الحاكم مع الفتوى فيجتمع الحكمان كمسائل المعاملات من البيوع والرهون والإيجارات والوصايا والأوقاف والزواج والطلاق.
الثانى ما لا يقبل إلا الفتوى كالعبادات وأسبابها وشروطها وموانعها.
وتفارق الفتوى القضاء فى أن هذا الأخير إنما يقع فى خصومة يستمع فيها القاضى إلى أقوال المدعى والمدعى عليه ويفحص الأدلة التى تقام من بينة وإقرار وقرائن ويمين، أما الفتوى فليس فيها كل ذلك وإنما هى واقعة يبتغى صاحبها الوقوف على حكمها من واقع مصادر الأحكام الشرعية.
ويختلف المفتى والقاضى عن الفقيه المطلق بأن القضاء والفتوى أخص من العلم بالفقه لأن هذا أمر كلى يصدق على جزئيات أو قواعد متنوعة وبعبارة أخرى فإن عمل المفتى والقاضى تطبيقى وعمل الفقيه تأصيل لقاعدة أو تفريع على أصل مقرر.
هذا ولا تختلف كلمة المذاهب الأخرى عما تقدم فى هذا الموضع (المجموع للنوى شرح المهذب ج ١ ص ٤١، ٤٢ وكشاف القناع للبهوتى الحنبلى ج ٦ ص ٢٤٠) .
متى تكون الفتوى ملزمة تقدم القول إن الفتوى مجرد بيان حكم الشرع فى الواقعة المسئول عنها وبهذا ليس فيها أولها قوة الإلزام ومع هذا تكون ملزمة للمستفتى فى الوجوه التالية.
الأول التزام المستفتى العمل بالتقوى.
الثانى شروعه فى تنفيذ الحكم الذى كشفته الفتوى.
الثالث إذا اطمأن قلبه إلى صحة الفتوى والوثوق بها لزمته.
الرابع إذا قصر جهده على الوقوف على حكم الواقعة ولم يجد سوى مفت واحد لزمه الأخذ بفتياه، أما إذا وجد مفتيا آخر فإن توافقت فتواهما لزم العمل بها وإن اختلفتا فإن استبان له الحق فى إحداهما لزمه العمل بها وإن لم يستبن له الصواب لوم يتيسر له الاستيثاق بمفت آخر كان عليه أن يعمل بقول المفتى الذى تطمئن إليه نفسه فى دينه وعلمه لقول الرسول صلى الله عليه وسلم (استفت نفسك وإن أفتاك الناس وأفتوك) (تاريخ القضاء فى الإسلام للقاضى محمود عرنوس ص ١٧٤ المطبعة المصرية الأهلية الحديثة بالقاهرة سنة ١٩٣٤ والدر المختار للحصكفى ورد المختار لابن عابدين ج ٤ ص ٣١٥ فى كتاب القضاء) .
هل للقاضى أن يفتى اختلفت نقول الفقهاء فى هذا الموطن ففى الفقه الحنفى يفتى القاضى ولو فى مجلس القضاء من لم يخاصم إليه هذا هو الصحيح.
قال ابن عابدين وفى الظهيرية ولا بأس للقاضى أن يفتى من لم يخاصم إليه ولا يفتى أحد الخصوم فيما خوصم إليه فيه وفى الخلاصة.
القاضى هل يفتى فيه أقاويل والصحيح لا بأس به فى مجلس القضاء وغيره من الديانات والمعاملات وفى كافى الحاكم أكره للقاضى أن يفتى فى القضاء للخصوم كراهة أن يعلم خصمه قوله فيحترز منه بالباطل وفى معين الحكام لا يفتى القاضى فى مسائل الخصومات لأهل بلده لئلا يحترز الخصم بالباطل وأما إلى غيره فلا بأس.
وفى الفقه الشافعى (المجموع للنووى ج ١ ص ٤١، ٤٢) نقل الخطيب أن القاضى كغيره فى الفتيا بلا كراهة هذا هو الصحيح المشهور من مذهبنا، وفى تعاليق الشيخ أبى حامد أن له الفتوى فى العبادات ومالا يتعلق بالقضاء أما ما يتعلق بالقضاء فوجهان لأصحابنا.
أحدهما ليس له أن يفتى فى مسائل الأحكام، لأن لكلام الناس عليه مجالا ولأحد الخصمين عليه مقالا.
والثانى للأصحاب أيضا للقاضى أن يفتى فى مسائل الأحكام كغيرها لأنه أهل لها.
وقال ابن المنذر - تكره الفتوى فى مسائل الأحكام الشرعية وقال شريح أنا أقضى ولا أفتى (أعلام الموقعين لابن القيم ج ٤ ص ١٩٢) .
وفى الفقه الأباضى (كتاب شرح النيل وشفاء العليل لمحمد يوسف أطفيش ج ٦ ص ٥٥٨) ويكره للقاضى أن يفتى فى الأحكام إذا سئل عنها وإن أفتى فى أمور الدين جازو عن عمر أنه كتب إلى شريح لا تسارر إلا أحد فى مجلسك ولا تبع ولا تتبع ولا تفت فى مسألة من الأحكام ولا تضر ولا تضار وقال العاصمى ومنع الإفتاء للحكام فى كل ما يرجع للخصام.
وأجيز الإفتاء فى مسألة عامة لا فى خصومة معينة.
ولعله وضح من هذا أمر من كرهوا للقاضى الإفتاء فيما تثور فيه الخصومات أمامه أقوى حجة وأولى بالاتباع لأنه يبتعد بالقاضى عن مظان التهم ويضمن حياده بين الخصوم.
ماذا لو رجع المفتى عن فتواه، أو تغير اجتهاده قال ابن القيم إذا أفتى المفتى بشىء ثم رجع عنه فإن على المستفتى برجوعه ولم يكن عمل بالأول فقيل يحرم العمل به، وقيل إنه لا يحرم عليه الأول بمجرد رجوع المفتى، بل يتوقف المستفتى حتى يسأل غير المفتى، فإن أفتاه بما يوافق الأول استمر على العمل به وإن أفتاه برأى آخر ولم يفته أحد بما خالف الخير حرم عليه العمل بالأول، وإن لم يكن فى البلد إلا مفت واحد، سأله عن رجوعه عما أفتاه به، فإن كان رجوعه إلى اختيار قول آخر مع تسويغه الأول لم يحرم عليه، وإن كان رجوعه لخطأ بان له وأن ما افتاه به لم يكن صوابا حرم عليه العمل بالأول إذا كان رجوعه لمخالفة دليل شرعى، أما إذا كان رجوعه لمجرد أنه بان له أن ما أفتى به خلاف مذهبه لم يحرم على المستفتى العمل بالفتوى الأولى، إلا أن تكون المسألة إجماعية، فلو تزوج المستفتى بالفتوى ودخل بالزوجة ثم رجع المفتى لم يحرم عليه إمساك امرأته إلا بدليل شرعى يقتضى تحريمها ولا يجب عليه مفارقتها بمجرد رجوعه ولا سيما إذا كان الرجوع لما تبين له من مخالفة مذهبه وإن وافق مذهب غيره.
وإذا تغير اجتهاد المفتى فهل يلزمه إعلام المستفتى اختلف فى ذلك، فقيل لا يلزمه لأنه عمل أولا بما يسوغ له، فإذا لم يعلم ببطلانه لم يكن آثما فهو فى سعة من استمراره، وقيل بل يلزمه إعلامه، لأن ما رجع عنه قد اعتقد بطلانه وبان له أن ما أفتاه به ليس من الدين فيجب عليه إعلامه، والصواب التفصيل فإن كان المفتى ظهر له الخطأ قطعا لكونه خالف نص الكتاب أو السنة التى لا معارض لها أو خالف إجماع الأمة فعليه إعلام المستفتى، وإن كان إنما ظهر له أنه خالف مجرد مذهبه أو نص إمامه لم يجب عليه إعلام المستفتى (اعلام الموقعين ج ٤ ص ١٩٥، ١٩٦ وا٨لمجموع للنووى ج ١ ص ٤٥، ٤٦ ومختصر الطحاوى - فقه حنفى ص ٣٢٧ وقوانين الأحكام الشرعية لابن جزى المالكى ص ٣٢٢ طبعة دار العلم بيروت ١٩٧٤ تحقيق الأستاذ عبد العزيز سيد الأهل) .
ماذا لو أخطأ المفتى فى أعلام الموقعين لابن القيم (ج ٤ ص ١٩٦ ١٩٧ الطبعة السابقة) خطأ المفتى كخطأ الحاكم (القاضى) والشاهد وقد اختلفت الرواية فى خطأ الحاكم فى النفس أو الطرف.
فعن الإمام أحمد فى ذلك روايتان - احدهما - أنه فى بيت المال لأنه يكثر منه ذلك الحكم فلو حملته العاقلة لكان ذلك إضرارا عظيما بهم والثانية أنه على عاقلته كما لو كان الخطأ بسبب غير الحاكم، أما خطؤه فى المال فإذا حكم بحق ثم بان كفر الشهود أو فسقهم نقض حكمه، ثم رجع المحكوم عليه ببدل المال على المحكوم له.
وكذلك إذا كان الحكم بقود رجع أولياء المقتول ببدله على المحكوم له وإذا كان الحكم بحق لله بإتلاف مباشر أو بالسراية ففيه ثلاثة أوجه أحدها أن الضمان على المزكين لأن الحكم إنما وجب بتزكيتهم.
والثانى يضمنه الحاكم لأنه لم يثبت، بل فرط فى المبادرة إلى الحكم وترك البحث والاستقصاء.
والثالث أن للمستحق تضمين أيهما شاء وعن أحمد رواية أخرى أنه لا ينقض بفسق الشهود، وعلى هذا إذا استفتى الإمام أو الوالى مفتيا فأفتاه ثم بان له خطؤه فحكم المفتى مع الإمام حكم المزكين مع الحاكم (القاضى) وإن عمل المستفتى بفتواه من غير حاكم ولا إمام فأتلف نفسا أو مالا، فإن كان المفتى أهلا فلا ضمان عليه والضمان على المستفتى وإن لم يكن أهلا فعليه الضمان لقول النبى - صلى الله عليه وسلم - (من تطبب ولم يعرف منه طب فهو ضامن) وهذا يدل على أنه إذا عرف منه طب وأخطأ لم يضمن، والمفتى أولى بعدم الضمان من الحاكم والإمام.
وفى الفقه الحنفى (الدر المختار وحاشية ابن عابدين رد المحتار ج ٤ كتاب القضاء ص ٣٣٥ ٣٦٠ والأشباه والنظائر لابن نجيم مع حاشية الحموى فى ذات الموضع ص ٣٥٥ ومجمع الضمانات ص ٣٦٤ آخر الباب الثلاثين) أن خطأ القاضى تارة يكون فى بيت المال، وهو إذا أخطأ فى حد ترتب عليه تلف نفس أو عضو، وتارة يكون فى مال المقضى له وهذا إذا أخطأ فى قضائه فى الأموال، وتارة يكون هدرا وهو إذا أخطأ فى حد ولم يترتب على ذلك تلف نفس أو عضو كحد الشرب مثلا، وتارة يكون فى مال القاضى وهو ما إذا تعمد الجور.
ولقد نص الفقه المالكى (مواهب الجليل للحطاب وبهامشه التاج والاكليل للمواق ج ٦ ص ٢٠٢ فى الرجوع عن الشهادة) على أن القاضى لو علم بكذب الشهود فحكم بالجور وأرق الدماء كان حكمه حكم الشهود إذا لم يباشر القتل بنفسه، بل أمر به من تلزمه طاعته، وفى المدونة إن أقر القاضى أنه رجم أو قطع الأيدى أو جلد تعمدا للجور أقيد منه وهو ظاهر فى أن القود يلزم القاضى وإن لم يباشر ومن هذا النص وغيره مما ساقه فقهاء المالكية يتضح أن حكم الشاهد فى الرجوع عن الشهادة يسرى على القاضى والمفتى بالبيان السابق نقله عن ابن القيم.
وقد جرى الفقه (حواشى تحفة المحتاج بشرح المنهاج ج ١٠ ص ٢٨٠ وما بعدها) الشافعى فى بيان حكم خطأ القاضى والمفتى والشهود على نحو ما ردده فقهاء المذاهب الثلاثة فيما سبق.
ويخلص مما تقدم أن خطأ المفتى والقاضى يكون ضمانه فى بيت المال إذا ثبت أنهما جدا واجتهدا فى الفحص واستقصاء الوقائع والأدلة ولم يقصرا فى البحث بمقارنة الحجج والبيانات والتعرف على عدالة الشهود واستظهار دلالة الشهادة.
ثم الوصول إلى الحكم الشرعى فى الواقعة.
أما إذا ثبت تقصير المفتى أو القاضى وقعوده عن التقصى فيما هو مطروح أمامه كان ضامنا لما أفسده بفتواه أو قضائه لاسيما إذا كان المفتى غير أهل للفتيا، كما تقدم.
المصادر التى يعتمد عليها المفتى والقاضى غير المجتهد قال الشيخ عز الدين (تاريخ القضاء فى الإسلام للقاضى محمود عرنوس ١٥٤، ١٥٥) بن عبد السلام وأما الاعتماد على كتب الفقه الصحيحة الموثوق بها فقد اتفق العلماء فى هذا العصر على جواز الاعتماد عليها لأن الثقة قد حصلت فيها، كما تحصل بالرواية، ولذلك فقد اعتمد الناس على الكتب المشهورة فى النحو واللغة والطب وسائر العلوم لحصول الثقة وبعد التدليس، ومن اعتقد أن الناس قد اتفقوا على الخطأ فى ذلك لهو أولى بالخطأ منهم، ولولا جواز ذلك لتعطل كثير من المصالح.
ومثل هذا ذكره القرافى (المرجع السابق فى ذات الموضع) فى كتابه الأحكام فى تمييز الفتيا عن الأحكام وتصرفات القاضى والأمام قال كان الأصل يقتضى ألا تجوز الفتيا إلا بما يرويه العدل عن المجتهد الذى يقلده المفتى حتى يصح ذلك عند المفتى كما تصح الأحاديث عند المجتهد، لأنه نقل فى دين الله فى الموضعين، وعلى هذا كان ينبغى أن يحرم غير ذلك غير أن الناس توسعوا فى هذا العصر، فصاروا يفتون من كتب يطالعونها من غير رواية وهو خطر عظيم فى الدين وخروج عن القواعد، غير أن الكتب المشهورة لأجل شهرتها بعدت بعدا شديدا عن التحريف والتزوير فاعتمد الناس عليها اعتمادا على ظاهر الحال.
ونقل المواق فى التاج والإكليل (التاج والاكليل على هامش مواهب الجليل للحطاب ج ٦ ص ٨٨) قول ابن عبد السلام مواد الاجتهاد فى زماننا أيسر منها فى زمن المتقدمين لو أراد الله بنا الهداية.
وقال الكمال (فتح القدير على الهداية ج ٥ ص ٤٥٦، ٤٥٧ طبعة أولى المطبعة الأميرية ١٣١٦ هجرية) بن الهمام الحنفى إن طريق النقل عن المجتهد أحد أمرين إما أن يكون له سند فيه أو يأخذه عن كتاب معروف تداولته الأيدى نحو كتب محمد بن الحسن لأنه بمنزلة الخبر المتواتر أو المشهور وبمثل هذا قال ابن نجيم المصرى الحنفى فى كتابه البحر الرائق شرح كنز الدقائق (ج ٦ ص ٢٨٩ إلى ٢٩٢) وقد تقدم.
التحقق من الصلاحية للفتوى روى الخطيب (كتابه الفقيه والمتفقه المجلد الثانى ج ٧ ص ١٢٥ - ١٥٤ الطبعة الأولى طبعة دار الافتاء السعودية سنة ١٣٨٩ هجرية وأعلام الموقعين لابن القيم ج ٤ ص ١٨٠، ١٨١) أبو بكر الحافظ البغدادى بسنده عن أبى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج فى آخر الزمان رجال - وفى رواية - قوم رءوس جهال يفتون الناس فيضلون ويضلون وروى بسنده أيضا عن مالك قال أخبرنى رجل أنه دخل على ربيعة بن عبد الرحمن فوجده يبكى فقال ما يبكيك وارتاع لبكائه، فقال أدخلت عليك مصيبة فقال لا ولكن استفتى من لا علم له وظهر فى الإسلام أمر عظيم ثم عقب الشيخ أبو بكر الحافظ رحمه الله بقوله ينبغى لإمام المسلمين أن يتصفح أحوال المفتين، فمن كان يصلح للفتوى اقره عليها ومن لم يكن من أهلها منعه منها وتقدم إليه بألا يتعرض لها وأوعده بالعقوبة إن لم ينته عنها وقد كان الخلفاء من بنى أمية ينصبون للفتوى بمكة فى أيام الموسم قوما يفتونهم ويأمرون بألا يستفتى غيرهم.
وروى أيضا بسنده (المرجع السابق ص ١٦٨) عن محمد بن سماعة قال سمعت أبا يوسف يقول سمعت أبا حنيفة يقول من تكلم فى شىء من العلم وتقلده وهو يظن أن الله لا يسأله عنه كيف أفتيت فى دين الله فقد سهلت عليه نفسه ودينه.
وفى ذات الموضع أيضا قول الإمام أبى حنيفة لولا الفرق من الله تعالى أن يضيع العلم.
ما افتيت أحدا يكون له المهنأ وعلى الوزر.
وقد نقل ابن نجيم الحنفى فى البحر (ج ٦ ص ٢٨٦) الرائق عن شرح الروض أنه ينبغى للإمام أن يسأل أهل العلم المشهورين فى عصره عمن يصلح للفتوى ليمنع من لا يصلح ويتوعده بالعقوبة إذا عاد.
كما نقل البهوتى الحنبلى فى كتابه (ج ٦ ص ٢٤١) كشاف القناع قول الخطيب البغدادى ويبنغى للإمام أن يتصفح أحوال المفتين فمن صلح للفتيا أقره ومن لا يصلح نهاه ومنعه وحكى ما نقل عن الإمام مالك من أقوال فى هذا الشأن.
ومن هذا الفقه نستبين أن الفتوى خطيرة الأثر.
وقد قيل إن حكم الله ورسوله يظهر على أربعة ألسنة لسان الراوى ولسان المفتى ولسان الحاكم (القاضى) ولسان الشاهد فالراوى يظهر على لسانه حكم الله ورسوله والمفتى يظهر على لسانه معناه وما استنبطه من لفظه والحاكم يظهر على لسانه الأخبار بحكم الله وتنفيذه والشاهد يظهر على لسانه الإخبار بالسبب الذى يثبت حكم الشارع والواجب على هؤلاء الأربعة أن يخبروا بالصدق المستند إلى العلم فيكونون عالمين بما يخبرون به صادقين فى الإخبار به.. ومن التزم الصدق والبيان والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما (أعلام الموقعين لابن القيم ج ٤ ص ١٥٢ الطبعة السابقة) .
هذا وقد عرض سلطان العلماء العز بن عبد السلام لعدة أمور فى الاجتهاد والتقليد فى كتابه قواعد (ج ٢ ص ١٥١ ١٥٤) الأحكام فى مصالح الأنام تحت عنوان قاعدة فيمن تجب طاعته ومن تجوز طاعته ومن لا تجوز طاعته.
فقال لا طاعة لأحد المخلوقين إلا لمن أذن الله فى طاعته كالرسل والعلماء والأئمة والقضاة والولاة والآباء والأمهات والسادات والأزواج والمستأجرين فى الإجارات على الأعمال والصناعات ولا طاعة لأحد فى معصية الله عز وجل لما فيه من المفسدة الموبقة فى الدارين أو فى أحدهما، فمن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة له، إلا أن يكره إنسانا على أمر يبيحه الإكراه فلا إثم على مطيعه وقد تجب طاعته ولا لكونه آمرا بل لدفع مفسدة ما يهدده به من قتل أو قطع أو جناية على بضع، ولو أمر الإمام أو الحاكم إنسانا بما يعتقد الآمر حله والمأمور تحريمه فهل له فعله نظرا إلى رأى الآمر أو يمتنع نظرا إلى رأى المأمور فيه خلاف، وهذا مختص فيما لا ينقض حكم الآمر به فإنه كان مما ينقض حكمه به فلا سمع ولا طاعة، وكذلك لا طاعة لجهلة الملوك والأمراء إلا فيما يعلم المأمور أنه مأذون فى الشرع.
وتفرد الإله بالطاعة لاختصاصه بنعم الإنشاء والإبقاء والتغذية والإصلاح الدينى والدنيوى فما من خير إلا هو جالبه، وما من ضير إلا هو سالبه وليس بعض العباد بأن يكون مطاعا بأولى من البعض، إذ ليس لأحد منهم إنعام بشىء مما ذكرته فى حق الإله، وكذلك لا حكم إلا له فأحكامه مستفادة من الكتاب والسنة والإجماع والأقيسة الصحيحة والاستدلالات المعتبرة فليس لأحد أن يستحسن ولا أن يستعمل مصلحة مرسلة، ولا أن يقلد أحدا لم يؤمر بتقليده كالمجتهد فى تقليد المجتهد، أو فى تقليد الصحابة، وفى هذه المسائل اختلاف بين العلماء، ويرد على من مخالف ذلك فى قوله عز وجل {إن الحكم إلا لله أمر أن لا تعبدوا إلا إياه} يوسف ٤٠، ويستثنى من ذلك العامة فإن وظيفتهم التقليد بعجزهم عن التوصل إلى معرفة الأحكام بالاجتهاد بخلاف المجتهد فإنه قادر على النظر المؤدى إلى الحكم ومن قلد إماما من الأئمة ثم أراد تقليد غيره فهل له ذلك فيه خلاف والمختار التفصيل فإن كان المذهب الذى أراد الانتقال إليه مما ينقض فيه الحكم، فليس له الانتقال إلى حكم يجب نقضه، فإنه لم يجب نقضه إلا لبطلانه، فإن كان المأخذان متقاربين جاز التقليد والانتقال، لأن الناس لم يزالوا من زمن الصحابة إلى أن ظهرت المذاهب الأربعة يقلدون من اتفق من العلماء من غير نكير من أحد يعتبر إنكاره، ولو كان ذلك باطلا لأنكروه وكذلك لا يجب تقليد الأفضل وإن كان هو الأولى لأنه لو وجب تقليده لما قلد الناس الفاضل والمفضول فى زمن الصحابة والتابعين من غير نكير بل كانوا مسترسلين فى تقليد الفاضل والأفضل ولم يكن الأفضل يدعو الكل إلى تقليد نفسه، ولا المفضول يمنع من سأله عن وجود الفاضل وهذا مما لا يرتاب فيه عاقل.
ومن العجب العجيب أن الفقهاء المقلدين يقف أحدهم على ضعف مأخذ إمامه بحيث لا يجد لضعفه مدفعا ومع هذا يقلده فيه، ويترك من الكتاب والسنة والأقيسة الصحيحة لمذهبه جمودا على تقليد إمامه، بل يتحلل لدفع ظواهر الكتاب والسنة، ويتأولهما بالتأويلات البعيدة الباطلة نضالا عن مقلده، وقد رأيناهم يجتمعون فى المجالس فإذا ذكر لأحدهم فى خلاف ما وطن نفسه عليه تعجب إمامه حتى ظن أن الحق غير استرواح إلى دليل بل لما ألفه من تقليد إمامه حتى ظن أن الحق منحصر فى مذهب إمامه أولى من تعجبه من مذهب غيره، فالبحث مع هؤلاء ضائع مفض إلى التقاطع والتدابر من غير فائدة يجديها، وما رأيت أحدا رجع عن مذهب إمامه إذا ظهر له الحق فى غيره بل يصير عليه مع علمه بضعفه وبعده، فالأولى ترك البحث مع هؤلاء الذين إذا عجز أحدهم عن تمشية مذهب إمامه قال لعل إمامى وقف على دليل لم أقف عليه ولم أهتد إليه، ولم يعلم المسكين أن هذا مقابل بمثله لخصمه ما ذكره من الدليل الواضح والبرهان اللائح، فسبحان الله ما أكثر ما أعمى التقليد بصره حتى حمله على مثل ما ذكر وفقنا الله لاتباع الحق أينما كان وعلى لسان من ظهر، وأين هذا من مناظرة السلف ومشاورتهم فى الحكام ومسارعتهم إلى اتباع الحق إذا ظهر لسان الخصم وقد نقل عن الشافعى رحمه الله أنه قال ما ناظرت أحدا إلا قلت اللهم أجر الحق على قلبه ولسانه فإن كان الحق معى اتبعني وإن كان الحق معه ابتعته.
(فائدة) اختلف العلماء فى تقليد الحاكم المجتهد لمجتهد آخر فأجازه بعضهم لأن الظاهر من المجتهدين أنهم أصابوا الحق، فلا فرق بين مجتهد ومجتهد فإذا جاز للمجتهد أن يعتمد على ظنه المستفاد من الشرع فلم لا يجوز له الاعتماد على ظن المجتهد الآخر المعتمد على أدلة الشرع، ولا سيما إذا كان المقلد أنبل وأفضل فى معرفة الأدلة الشرعية ومنعه الشافعى وغيره وقالوا ثقته بما يجده من نفسه من الظن المستفاد ومن أدلة الشرع أقوى مما يستفيده من غيره ولا سيما إن كان هو أفضل الجماعة، وخير أبو حنيفة فى تقليد من شاء من المجتهدين لأن كل واحد منهم على حق وصواب، وهذا ظاهر متجه إذا قلنا كل مجتهد مصيب.
وبعد فلعل هذه الكلمة الراشدة من الشيخ العز بن عبد السلام بيان للمنهج الذى يجب أن يسير عليه المفتون فى نطاق ما تواتر واشتهر فى كتب فقه المذاهب من آداب للمفتى والمستفتى وللفتيا إذ تكاد نصوص السلف الصالح من العلماء تتفق على تلك الآداب ولقد نهج المفتون فى مصر هذا السبيل، إذا تكشف تطبيقاتهم واختياراتهم عن التزامهم بما تواتر من فقه المذاهب، مؤثرين ما صح دليله، وصلح عليه حال المستفتى.
وهذا ما ينبغى أن يلتزمه كل مفت مستعينا بالله رب العالمين معلم إبراهيم.
والله يقول الحق وهو يهدى السبيل وهو الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب.
وصلى الله على سيدنا محمد عبد الله ورسوله.
وعلى آله وأصحابه وسلم.
القاهرة فى رمضان ١٤٠٠ هجرية يوليو ١٩٨٠ م.
جاد الحق على جاد الحق.
مفتى جمهورية مصر العربية