[حديث فى قسمة الأرزاق]
المفتي
عطية صقر.
مايو ١٩٩٧
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
نرجو شرح الحديث الشريف الذى يقول: " إذا نظر أحدكم إلى هن فضل عليه بالمال والخلق فلينظر إلى من هو أسفل منه ممن فضل عليه "؟
الجواب
هذا الحديث رواه البخارى ومسلم، ويجب أن نعلم أن حظوظ الناس فى الحياة متفاوتة، والله وحده مالك الأمر كله، يعطى من يشاء، ويمنع ما يشاء عمن يشاء، قال تعالى {قل اللهم مالك الملك تؤتى الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعزمن تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شىء قدير} [آل عمران:: ٢٦] وقال {أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم فى الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات} [الزخرف: ٣٢] وهذا التفاوت فى الحظوظ لحكمة جاء بيانها فى مثل قوله تعالى: {وهو الذى جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم} [الأنعام:١٦٥] ولا يشترط أن يكون هذا التفضيل تكريما من الله لهم، فكم من كفار وعصاة يتقلبون فى االثراء ليزدادوا به كفرا وطغيانا، قال تعالى {لا يغرنك تقلب الذين كفروا فى البلاد. متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد} [آل عمران: ١٩٦،،١٩٧] .
ومنح الله لعباده قد تكون بمحض قدرته واختياره دون أن يكون لأحد فيها تدخل بوجه من الوجوه كالجمال الذى يولد به الإنسان ولا يد له فيه، وكالثراء الوارد عن طريق الميراث أو طريق لم يبذل فيه صاحبه أى جهد، وقد تكون هذه المنح نتيجة جهد وعمل كالتى تأتى عن طريق الكسب التجارى والصناعى وما شاكله.
والطبيعة البشرية نزَّاعة إلى جب المال والجمال ومتع الحياة، ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه، وكثير من الناس ينظرون إلى ما فضل الله به الآخرين عليهم نظرة الحسرة والألم، ويتمنى بعضهم أن تزول هذه النعمة عن أصحابها ليتساووا جميعا فى الفقر والضعف والحاجة، وهذا هو الحسد المذموم الذى يورث صاحبه همًّا لا يفارقه، وقلقا لا يترك له فرصة يستريح فيها باله وتهدأ أعصابه، وقد يتورط فى أعمال غير كريمة لينال بها من هذا الذى فضله الله عليه، وقد ذم الدين هذا الخلق، وجاء فى الحديث أنه يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب. رواه أبو داود وابن ماجه والبيهقى.
وقد يكون هناك بعض الناس الذين لم ينالوا حظا من متع الحياة يتمنون أن يكون لهم مثل ما لغيرهم، ويسعى بعضهم جاهدا لإدراك ما يتمنى.
وقد يرتكب بعضهم فى سبيل ذلك ما لا يوافق عليه شرع ولا خلق.
والحديث الذى نحن بصدده يرسم لنا الدواء الذى به تستريح النفس إزاء هذه الفوارق التى فضَّل بها الله بعض الناس على بعض، فيرشد كل عاقل إلى أنه لو تطلعت نفسه إلى ما منح غيره من مال وخلق، أى غنى وجمال وقوة أو غير ذلك من متع الدنيا، فجدير به أن ينظر إلى من هو أقل منه فى هذه الأمور، حتى يحس بأن الله أنعم عليه بما لم ينعم به على غيره، وهنا تهدأ نفسه، ويقنع بما عنده، ويكون هنا مجال لشكنر الله عليها، وهذا ما يشير إليه قول النبى صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم " انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم ". والإحساس بنعمة الله مهما صغرت وشكره عليها وسيلة من وسائل رضوان الله وحفظ النعمة وزيادتها، وعلى النقيض من ذلك يكون ازدراؤها والاستهانة بها موجبا لغضب الله وانتقامه فى العاجل أو الآجل، قال تعالى {وإذ تأذَّن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابى لشديد} [إبراهيم: ٧] وقد جاء فى الهدى الإسلامى أن الإنسان إذا أراد أن يتنافس مع غيره فليكن التنافس فى مجال الخير والفضائل والكمالات، مستخدما فى ذلك ما منحه الله من مال وصحة ولو كان بقدر ضئيل، وهو ما يشير إليه قول النبى صلى الله عليه وسلم " لا حسد إلا فى اثنتين " والمراد لا ينبغى أن تكون هناك غبطة وتنافس واهتمام إلا فى هاتين الخصلتين " رجل آتاه الله مالا فسلَّطه على هلكته فى الحق، ورجل آتاه الله للحكمة فهو يقضى بها ويعلمها للناس " رواه البخارى ومسلم.
أما التنافس الدنيوى المحض فهو مذموم، ذلك أن متاع الحياة الدنيا لا تشبع منه النفس الإنسانية، وهى حقيقة مقررة أشار إليها قول النبى صلى الله عليه وسلم " لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى ثالثا لهما، ولا يملأ عين ابن آدم إلا التراب " رواه البخارى ومسلم. وقد وجه الله نبيه، وهو توجيه لأمته أيضا أن يكون الاهتمام بالكمال الأدبى والدينى أشد من الاهتمام بالكمال المادى الدنيوى الذى يلهى ويضر، قال تعالى: {ولا تمدَّن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى} [طه: ١٣١] وقال تعالى {المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا} [الكهف: ٤٦] وقال {قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى} [النساء: ٧٧] . والإيمان بقدر الله والرضا بعطائه يهون على النفس متاعبها وآلامها، جاء فى الحديث الشريف " إن روح القُدس نفث فى روعى أنه لن تموت نفس حتى تستوفى رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا فى الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله، فإن الله لا ينال ما عنده إلا بطاعته " رواه ابن حبان وابن ماجه والحاكم وغيرهم بألفاظ متقاربة.
والنبى صلى الله عليه وسلم قد حذرنا من الاهتمام بالدنيا الذى يصرف عن الآخرة فقال " من كانت الآخرة أكبر همه جعل الله غناه فى قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهى راغمة، ومن كانت الدنيا أكبر همه جعل الله فقره بين عينيه، وشتت عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له " رواه الترمذى وابن حبان وابن ماجه وغيرهم.
وقد كان السلف الصالح يتنافسون فى البر، كما حدث من عثمان وأبى بكر وعمر فى تمويل جيش العسرة، وكما حدث من عبد الرحمن ابن عوف وغيره من الأعمال الخيرية الكثيرة، التى لم يلههم عنها ما جمعوه من مال.
لكن ليس معنى هذا أن الله يصرف الناس عن الكسب ويحرمهم متع الدنيا، فهو القائل {يا أيها الذين آمنوا لا تحرِّموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا} [المائدة: ٨٧] وقال النبى صلى الله عليه وسلم " نعم المال الصالح للعبد الصالح " رواه أحمد بسند جيد وقال " الدنيا حلوة خضرة، فمن أخذها بحقها بارك الله له فيها "رواه الطبرانى بإسناد حسن.
فلنملأ قلوبنا بالإيمان، ولنجعل المعانى الأدبية أكبر همنا، ولنعمل جاهدين لرفع مستوانا، ولنوجه طاقاتنا إلى خير الدين والدنيا