صح فى حديث الشفاعة يوم القيامة أن إبراهيم امتنع عنها لأنه كذب على ربه ثلاث مرات، فما هى هذه الكذبات وكيف يتفق ذلك وهو عصمة الأنبياء؟
الجواب
روى البخارى ومسلم حديث الشفاعة وطلب الناس من إبراهيم عليه السلام أن يشفع لهم فامتنع وقال" إنى كذبت ثلاث كذبات " وهى قوله عندما سألوه عمن كسر الأصنام {بل فعله كبيرهم هذا} وقوله عندما نظر فى النجوم {إنى سقيم} وقوله عن زوجته سارة إنها أخته. وأجاب العلماء عن الأولى بأن إبراهيم لم يكذب، بل أثبت أنه صادق ولكن بطريقة غير مباشرة، أو كان صدقه قضية تحمل معها دليلها، فلو كنت أنت مثلا خطاطا ماهرا ولا يجيد الكتابة أحد غيرك، ثم سألك شخص أمى غير مجيد للكتابة وقال لك: أأنت كتبت هذا؟ فقلت له باستهزاء: بل أنت الذى كتبته، فالغرض هو إثبات الكتابة لك مع استهزائك بالسائل الذى ما كان ينبغى أن يوجه هذا السؤال الظاهر البطلان. ولذلك لما أجابهم إبراهيم عليه السلام بأن الذى كسر الأصنام هو كبيرهم رجعوا إلى أنفسهم يتهمونها بالغباء.
لاعتقادهم ألوهية من لا يتكلم ولا يسمع ولا يبصر، ولا يرد عن نفسه كيدا، ولكن العناد جعلهم يتمادون فى مجادلته وتكذيبه. ولجئوا أخيرا إلى التهديد باستعمال القوة والعنف، وهو سلاح كل عاجز عن الاستمرار فى المحاجة المنطقية.
وأجابوا عن الثانية وهى قوله:{إنى سقيم} بأنه كان بالفعل سقيما، وسقمه نفسى، وذلك من تماديهم فى الباطل على الرغم من قوة الحجة، كما قال الله تعالى فى حق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم {فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا} الكهف: ٦، فقد أوهمهم إبراهيم أنه سقيم الجسم على ما كانوا يعتقدون من تأثير الكواكب فى الأجسام وهو فى الوقت نفسه سقيم النفس. وهذا الأسلوب من المعاريض التى فيها مندوحة عن الكذب.
وأجابوا عن الثالثة وهى وصف زوجته بأنها أخته - بأنه صادق فى هذا الوصف لأنها أخته فى الدين كما جاء فى صحيح الروايات، وذلك ليخلصها من ظلم الجبار روى مسلم "ج ١٥ ص ١٢٣ بشرح النووى" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لم يكذب إبراهيم النبى عليه السلام قط إلا ثلاث كذبات، ثنتين فى ذات الله: قوله إنى سقيم وقوله بل فعله كبيرهم، وواحدة فى شأن سارة، فإنه قدم أرض جبار ومعه سارة وكانت أحسن الناس، فقال لها: إن هذا الجبار إن يعلم أنك امرأتى يغلبنى عليك، فإن سألك فأخبريه أنك أختى، فإنك أختى فى الإسلام، فإنى لا أعلم فى الأرض مسلما غيرى وغيرك، فلما دخل أرضه رآها بعض أهل الجبار أتاه فقال له: لقد قدم أرضك امرأة لا ينبغى لها أن تكون إلا لك. فأرسل إليها فأتى بها، فقام إبراهيم عليه السلام إلى الصلاة، فلما دخلت عليه لم يتمالك أن بسط يده إليها، فقبضت يده قبضة شديدة فقال لها: ادعى الله أن يطلق يدى ولا أضرك ففلعت فعاد فقبضت أشد من القبضة الأولى، فقال لها مثل ذلك ففعلت فعاد فقبضت أشد من القبضتين الأوليين، فقال ادعى الله أن يطلق يدى فلكِ الله ألا أضرك ففعلت وأطلقت يده ودعا الذى جاء بها فقال له: إنما أتينى بشيطان ولم تأتنى بإنسان، فأخرجها من أرضى وأعطها "هاجر " قال: فأقبلت تمشى فلما رآها إبراهيم عليه السلام انصرف، فقال لها "مَهيم "؟ قالت: خيرا، كف الله يد الفاجر وأخدم خادما" قال أبو هريرة فتلك أمكم يا بنى ماء السماء.
اسم هذا الجبار مذكور فى ص ٨١ من المجلد الثانى من هذه الموسوعة. ومعنى "مهيم " ما شأنك وما خبرك؟ ومعنى "أخدم خادما " أعطانى جارية تخدمنى وهى هاجر، والخادم يقع على الذكر والأنثى، والمراد "بماء السماء" العرب كلهم لخلوص نسبهم وصفائه، وقيل: لأن أكثرهم أصحاب مواش وعيشهم من المرعى والخصب وما ينبت بماء السماء، وقيل: المراد بهم الأنصار نسبة إلى جدهم "الأدد" وكان يعرف بماء السماء.
جاء فى شرح النووى لهذا الحديث أن المازرى قال: إن الكذب الذى يعصم منه الأنبياء هو الكذب فيما طريقه البلاغ عن الله تعالى، أما فى غير ذلك ففى إمكان وقوعه منهم وعصمتهم منه القولان المشهوران للسلف والخلف، وذكر أن ما قاله إبراهيم عن سارة تورية وهى جائزة، وليست كذبا، ولو كان كذبا لكان جائزا فى دفع الظالمين، فقد اتفق الفقهاء على أنه لو جاء ظالم يطلب إنسانا مختفيا ليقتله أو يطلب وديعة لإنسان ليأخذها غصبا وسأل عن ذلك وجب على من علم ذلك إخفاؤه وإنكار العلم به، وهذا كذب جائز بل واجب لكونه فى دفع الظالم، ثم نقل عن المازرى قوله: لا مانع من إطلاق الكذب على ما حدث من إبراهيم كما أطلقه النبى صلى الله عليه وسلم ومع ذلك فالتأويل صحيح لا مانع منه.
ثم حمل قوله {إنى سقيم} على أنه سيسقم لأن الإنسان عرضة للسقم، وأراد به الاعتذار عن الخروج معهم إلى عيدهم وشهود باطلهم وكفرهم، وقيل: سقيم بما قدِّر على من الموت، وقيل: كانت تأخذه الحمى فى ذلك الوقت