قد يصعب فى بعض الأحيان تنفيذ حكم من الأحكام، فيفكر بعضى الناس فى حيلة تعفى من تنفيذ هذا الحكم دون مؤاخذة عليه فهل الحيل مشروعة أو ممنوعة؟
الجواب
عقد البخارى فى صحيحه كتابا عن الحيل وأورد صورا منها فى العبادات وغيرها، وابن حجر فى كتابه فتح البارى " ج ١٢ ص ٣٤٢ " ذكر أن الحيلة هى ما يتوصل به إلى مقصود بطريق خفى. وحكم عليها بقوله: وهى عند العلماء على أقسام بحسب الحامل عليها-أى الداعى إليها -فإن توصل بها بطريق مباح إلى إبطال حق أو إثبات باطل فهى حرام، أو إلى إثبات حق أو دفع باطل فهى واجبة أو مستحبة، وإن توصل بها بطريق مباح إلى سلامة من وقوع فى مكروه فهى مستحبة أو مباحة، أو إلى ترك مندوب فهى مكروهة. ثم قال: ووقع الخلاف بين الأئمة فى القسم الأول: هل يصح مطلقا وينفذ ظاهرا وباطنا، أو يبطل مطلقا، أو يصح مع الإثم. ولمن أجازها مطلقا أو أبطلها مطلقا أدلة كثيرة.
فمن الأول قوله تعالى {وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث} ص: ٤٤، وهو فى حق أيوب حين حلف أن يضرب زوجته مائة جلدة-وقد عمل به النبى صلى الله عليه وسلم فى حق الضعيف الذى زنى - هو من حديث أبى أمامة بن سهل فى السنن. ومنه قوله تعالى {ومن يتق الله يجعل له مخرجا} الطلاق: ٢، والحيل فيها مخارج من المضايق فتكون جائزة. ومن الثانى قصة أصحاب السبت وحديث " حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وأكلوا ثمنها " وحديث لعن المحلل والمحلل له.
والأصل فى اختلاف العلماء فى ذلك اختلافهم: هل المعتبر فى صيغ العقود ألفاظها أو معانيها؟ فمن قال بالأول أجاز الحيل. ثم اختلفوا فمنهم من جعلها تنفذ ظاهرا وباطنا فى جميع الصور أو فى بعضها، ومنهم من قال: تنفذ ظاهرًا لا باطنا، ومن قال بالثانى أبطلها ولم يجز منها إلا ما وافق فيه اللفظ المعنى الذى تدل عليه القرائن الحالية. وقد اشتهر القول بالحيل عن الحنفية، لكون أبى يوسف صنف فيها كتابا، لكن المعروف عنه وعن كثير من أئمتهم تقييد أعمالها بقصد الحق. قال صاحب المحيط: أصل الحيل قوله تعالى {وخذ بيدك ضغثا} الآية، وضابطها إن كانت للفرار من الحرام والتباعد عن الإثم فحسن، وإن كانت لإبطال حق مسلم فلا، بل هى إثم وعدوان.
ثم قال ابن حجر: نص الشافعى على كراهة تعاطى- الحيل فى تفويت الحقوق، فقال بعض أصحابه: هى كراهة تنزيه - أى لا عقوبة فيها - وقال كثير من محققيهم كالغزالى: هى كراهة تحريم - أى فيها عقوبة - ويأثم بقصده، ويدل عليه قول " وإنما لكل امرائ ما نوى " فمن نوى بعقد النكاح التحليل كان محللا ودخل فى الوعيد على ذلك باللعن، ولا يخلصه من ذلك صورة النكاح. وكل شىء قصد به تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله كان إثما، ثم قال: وفى الجملة فلا يلزم من صحة العقد فى الظاهر رفع الحرج عمن يتعاطى الحيلة الباطلة فى الباطن. وقد نقل النسفى الحنفى فى "الكافى " عن محمد بن الحسن قال:
ليس من أخلاق المؤمنين الفرار من أحكام الله بالحيل الموصِّلة إلى إبطال الحق.
والقرطبى فى تفسيره "ج ٩ ص ٢٣٦ " عند قوله تعالى {فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه كذلك كدنا ليوسف} يوسف: ٧٦، قال فى قوله:{كذلك كدنا ليوسف} جواز التوصل إلى الأغراض بالحيل إذا لم تخالف شريعة ولا هدمت أصلا، خلافا لأبى حنيفة فى تجويزه الحيل وإن خالفت الأصول وحرمت التحليل. وذكر أن العلماء أجمعوا على أن للرجل قبل حلول الحول التصرف فى ماله بالبيع والهبة إذا لم ينو الفرار من الصدقة. وقال: من رام أن ينقض شيئا من فرائض الله بحيلة يحتالها لا يفلح ولا يقوم بذلك عذره عند الله، وما أجازه الفقهاء من تصرف صاحب المال فى ماله قرب حلول الحول إنما هو ما لم يرد بذلك الهرب من الزكاة. ومن نوى ذلك فالإثم عنه غير ساقط، والله حسيبه.
ولم يرتض القرطبى-ومذهبه مالكى-ما رآه الشافعية أو بعضهم من جواز الحيلة للوصول إلى المباح واستخراج الحقوق.
هذه نبذة عن الحيل واختلاف العلماء فى جوازها ومنعها، وفى اختلافهم رحمة، وفى رأى أن ربطها بالنية مطلوب، وما ذكره ابن حجر فى ذلك جميل