[التجسس فى الإسلام]
المفتي
حسن مأمون.
ذو القعدة ١٣٧٦ هجرية - ١٢ يونية ١٩٥٧ م
المبادئ
١ - الجاسوسية واقعة مادية تثبت بالإقرار وبالبينة كما تثبت بالأوراق القاطعة فى ذلك.
٢ - مذهب الأئمة الثلاثة الشافعى وأحمد وأبى حنيفة عدم جواز قتل الجاسوس.
أما المالكية فإنه يجوز عندهم قتله ولو كان من المسلمين ولا يستتاب ولا دية له عندهم.
٣ - التجسس على المسلمين لأعدائهم نوع من السعى فى الأرض فسادا.
وعقابه عقاب المحارب شرعا. ٤ - سد الذرائع مناط للتشريع، وأصل من أصول الأحكام الاجتهادية.
٥ - درء المفاسد عن المسلمين واجب، وعلى ولى الأمر أن يعطيها ما تستحق من العناية
السؤال
عن رأى الإسلام فى التجسس
الجواب
بناء على القرار الصادر من محكمة جنايات القاهرة فى قضية الجناية رقم لسنة ١٩٥٧ - قصر النيل كلى سنة ١٩٥٧ المؤجل النطق بالحكم فيها لجلسة ٢٢ يونية سنة ١٩٥٧ لإبداء رأينا بالنسبة للمتهم الرابع وفقا لنص المادة ٣٨١/٢ من قانون الإجراءات الجنائية.
قد اطلعنا على أوراق القضية وتحقيقات النيابة وعلى محاضر الجلسات أمام محكمة الجنايات وأمام غرفة الاتهام وذلك بالنسبة للمتهم المذكور.
وتبين أنه ألقى القبض عليه وهو فى بيت المتهم الأول فى ٢٧ أغسطس سنة ١٩٥٦، وأن نيابة أمن الدولة حققت معه.
وأقواله مدونة بالصفحات من ١٥ إلى ٢١ كما أنها استجوبته بالصفحات ٢٠٩ وما يليها.
وهذه الأقوال واضحة فى اعتراف المتهم بأنه كان يعطى المتهم الأول معلومات عن القوة المصرية، وانه كان يستخدم فى ذلك ابن شقيقته الذى يعمل فى سلاح الصيانة.
كما كان يستخدم ابنه وغيرهما وكان ينقل كل ما يصل إليه من معلومات نظير الأجر الذى يتقاضاه، وقد اعترف أيضا أمام غرفة الاتهام أنه لم يفعل شيئا وأن ما ذكره كان من الجرائد وأنه ذكر عدة أسماء ليتقاضى نقودا، واعترافه أمام غرفة الاتهام لا ينفى شيئا من أقواله أمام النيابة بل يؤكدها، ويحاول التنصل منها ومن تبعاتها بما ذكره من أنه كان ينقل ما ينقله من الجرائد.
ولما سئل من المحكمة عن التهم المنسوبة إليه أنكرها، ولما واجهته المحكمة بأنه اعترف بها فى التحقيق أجاب بأنه اعترف تحت تأثير التهديد فى الأودة الضلمة من المباحث العامة.
ولما سئل عن التعذيب الذى يفهم من إجابته أجاب بأنه تهديد فقط إلى آخر أقواله التى لا تخرج عن محاولة إنكار اعترافاته أو نسبتها إلى التهديد الأمر الذى لم يقم عليه دليل فضلا عن أنه قد أكد هذه الاعترافات أمام غرفة الاتهام كما بينا ز ولهذا كله نرى أن تهمة الجاسوسية ثابتة عليه من اعترافات أمام غرفة الاتهام كما بينا.
ولهذا كله نرى أن تهمة الجاسوسية ثابتة عليه من اعترافاته التى تأيدت بأقوال غيره من أقاربه ومن غيرهم وبما ضبط من أوراق.
أما حكم الشريعة فيمن يتجسس على المسلمين وينقل أخبارهم وخاصة ما كان منها متعلقا بالدفاع عن البلاد الإسلامية فقد اختلف فيه الفقهاء فذهب كثير منهم إلى عدم قتل المسلم الجاسوس كالشافعى وأحمد وأبو حنيفة.
وذهب الإمام مالك وابن القيم من أصحاب أحمد وغيرهما إلى إباحة قتل الجاسوس المسلم.
وقد استدل الفريق الثانى بحادثة حاطب بن أبى بلتعة.
فعن على رضى الله عنه قال بعثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد بن الأسود قال انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة ومعها كتاب فخذوه منها فانطلقنا تتعادى بناخيلنا حتى انتهينا إلى الروضة فإذا نحن بالظعينة فقلنا أخرجى الكتاب.
فقالت ما معى من كتاب فقلنا لتخرجن الكتاب أو لتلقين الثياب فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا فيه من حاطب بن أبى بلتعة إلى ناس من المشركين من أهل مكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا حاطب ما هذا قال يا رسول الله لا تعجل على إنى كنت امرأ ملصقا فى قريش ولم اكن من أنفسها وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون بها أهليهم وأموالهم فأحببت إذ فاتنى ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدا يحمون بها قرابتى وما فعتل ذلك كفرا ولا ارتدادا ولا رضا بالكفر بعد الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد صدقكم.
فقال عمر يا رسول الله دعنى أضرب عنق هذا المنافق فقال إنه قد شهد بدرا وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ماشئتم فقد غفرت لكم فنزلت الآية الكريمة {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوى وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق} الممتحنة ١، وقد ورد فى هذه الآية النهى عن موالاة غير المسلمين إذا عرفت عداوتهم لهم قال تعالى {إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم فى الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم} الممتحنة ٩، وقد جاء فى كتاب زاد المعاد لابن القيم بالصفحة ٣٧٧ جزء ٣ المطبوع على هامش القسطلانى مانصه بعد أن أورد الحديث الخاص بتجسس حاطب بن أبى بلتعة (واستدل به من يرى قتله كمالك وابن عقيل من أصحاب أحمد رحمة الله وغيرهما قالوا لأنه علل بعلة مانعة من القتل منتفية فى غيره، ولو كان الإسلام مانعا من قتله لم يعلل بأخص منه، لأن الحكم إذا علل بالأعم كان الأخص عديم التأثير وهذا أقوى) وقد جاء فى صفحة ١٤٣ من الجزء الثانى من كتاب تبصرة الحكام لابن فرحون المالكى قال سحنون فى المسلم يكتب لأهل الحرب بأخبارنا يقتل ولا يستتاب ولا دية لورثته كالمحارب - وقد نقل صاحب نيل الأوطار هذا الحديث وقال إنه متفق عليه.
وقال فى التعليق عليه وفى الحديث دليل على أنه يجوز قتل الجاسوس وأن فيه متمسكا لمن قالوا إنه يجوز قتل الجاسوس ولو كان من المسلمين.
وقد نقل ابن حجر فى شرحه المسمى فتح البارى الجزء السابع.
منه - أن عمر رضى الله عنه لما قال الرسول صلى الله عليه وسلم - أليس قد شهد بدرا قال بلى ولكنه نكث وظاهر أعداءك عليك.
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم - وهذا يؤكد ما ذهب إليه من استدل بهذا الحديث على جواز قتل الجاسوس المسلم على ما بينا - وأيضا فإن التجسس على المسلمين لصالح أعدائهم عمل يعرض مصالح المسلمين وبلادهم للضرر، وهو نوع من السعى بالفساد وقد نزلت الآية الكريمة فى عقاب من يحاربون الله ورسوله ويسعون فى الأرض فسادا وهى قوله تعالى فى سورة المائدة {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون فى الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزى فى الدنيا ولهم فى الآخرة عذاب عظيم} المائدة ٣٣، وقد بين ابن جرير الطبرى فى تفسيره أن سبب نزول هذه الآية قد بينه ابن عباس رضى الله عنه قال كان قوم من أهل الكتاب بينهم وبين النبى صلى الله عليه وسلم عهد وميثاق فنقضوا العهد وأفسدوا فى الأرض فخير الله رسوله إن شاء أن يقتل وإن شاء أن يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف.
ونقل مثل ذلك عن غير ابن عباس رضى الله عنه - وقد بين القرطبى فى تفسيره أن العلماء اختلفوا فيمن يستحق اسم المحاربة فقال مالك المحارب عندنا من حمل على الناس فى مصر أو برية أو كابرهم عن أنفسهم وأموالهم دون ثائرة أى هائجة ولا دخل أى ولا ثأر ولا عداوة.
وقال الشافعى وأبو ثور يجرى هذا الحكم سواء أكان فى المصر أو فى المنازل والطرق وديار أهل البادية والقرى.
وقال ابن المنذر هو كذلك لأن كلا يقع عليه اسم المحاربة والكتاب على العموم وليس لأحد أن يخرج من عموم الآية قوما بغير حجة.
وقالت طائفة لا تكون المحاربة فى المصر إنما تكون خارجة عن المصر وهو قول النووى وإسحق والنعمان - واختلفوا فى حكم المحارب.
فقالت طائفة يقام عليه بقدر فعله وقال أبو ثور ومالك وقد روى عن كثير من الصحابة أن الإمام مخير فى الحكم على المحاربين.
واستدلوا بظاهر الآية قال ابن عباس ما كان فى القرآن - أو - فصاحبه بالخيار وهذا القول أشعر بظاهر الآية.
ومما تقدم يظهر أن فى حكم الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون فى الأرض فسادا قولين أحدهما أنه يحكم على كل بقدر فعله.
والثانى أن الإمام مخير فى الحكم عليهم بإحدى العقوبات الواردة فى الآية ومنها القتل، وأن القول الثانى هو المتفق مع ظاهر الآية الكريمة.
والحكمة فى تشديد العقوبة على المحاربين لله ورسوله أى لأوليائهم وهم المسلمون - ويسعون فى الأرض فسادا هو ضمان أمن المسلمين فى بلادهم.
ومن يتجسس على المسلمين ويتصل بأعدائهم ويعطيهم علما بأسرار عسكرية سرية لينتفعوا بها فى البطش بهم، وإلحاق الأذى والضرر ببلادهم جدير بأن نعامله معاملة من يحارب الله ورسوله ويسعى فى الأرض فسادا فلكل أمة نظمها العسكرية.
والمصلحة العامة تستلزم أن تحتفظ لنفسها بأسرار تخفيها عن أعدائها، ولا يعلمها إلا أهلها المتصلون بحكم عملهم بها.
فإذا سولت نفس أحد المواطنين له بأن يستطلع أمر هذه الأسرار بطرقه المختلفة - وينقلها إلى أعدائه وأعداء بلاده كان جاسوسا وكان ممن يسعى فى الأرض بالفساد ولأن من شأن اطلاع العدو على هذه الأسرار أن يسهل عليه محاربة المسلمين وتوهين قواهم، وربما آل الأمر إلى احتلال بلادهم لاقدر الله وبسط سلطانه ونفوذه عليها.
ولا نزاع فى أنه يبدو من الاطلاع على أوراق القضية أن المتهم الرابع هو المسئول الأول عن التجسس الذى ثبت ثبوتا لا مجال للشك فيه وأنه رضى بأن يبيع بلده وأمته لأعدائهم نظير ما كان يتقاضاه من الأجر الذى كان يعطى له نظير قيامه بهذه المهمة - بل إننا نرى أن شأنه من ناحية الخطورة والضرر الذى قد يصيب أمته من عمله أعظم من شأن من يقف فى الطريق ويقطعه على المارة ويهددهم فى أنفسهم وأموالهم.
وقد أجاز الحنفية القتل سياسة، فأجازوا قتل الساحر والزنديق الداعى، لأن كلا منهما يفسد فى الأرض بسعيه فى إفساد عقيدتهم.
وقد جاء فى تنقيح الحامدية مانصه (سئل فى رجل عدائى مفسد غماز يسعى فى الأرض بالفساد ويوقع الشر بين العباد ويغرى على أخذ الأموال بالباطل وذبح العباد ويؤذى المسلمين بيده ولسانه ولا يرتدع عن تلك الأفعال إلا بالقتل فما حكمه - وأجاب صاحب التنقيح بأنه إذا كان كذلك أو خبرجم من المسلمين بذلك يقتل ويثاب قاتله لما فيه من دفع شره عن عباد الله - وجاء فى الجزء الأول من تفسير الإمام محمد عبده أنه جعل سد ذرائع الفساد والشر وتقرير المصالح وإقامة الحق والعدل فى تنازع الناس بعضهم مع بعض مناطا للتشريع، وأصلا من أصول الأحكام الاجتهادية وذلك لأن الله علل به شرعه للقتال ومنته على نبيه داود وجنده بالنصر على عدوهم، وما ترتب عليه من إيتائه الحكم والنبوة إذ قال {فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين} البقرة ٢٥١، وفى معناه تعليل الإذن للمسلمين فى القتال أول مرة بقوله تعالى {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير.
الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوى عزيز} الحج ٣٩، ٤٠، وما هنا أعم لأنه يشمل درء المفسدة فى الدين وغيرها من الفساد الدينى والدنيوى وهو المتأخر فى النزول - ومن هنا نعرف أن درء المفاسد والشرور عن المسلمين من الواجبات التى يجب على ولى الأمر أن يوليها ما تستحق من العناية - ولا نزاع فى أن الجاسوسية من أخطر الأعمال التى تعرض البلاد للفساد والشر والضرر إذا لم يضرب بيد قوية على من تسول له نفسه أن يقدم عليها غير مراع فى عمله حرمة دينه وبلاده وأهله ووطنه، ومالهم عليه من حقوق أقلها أن يكون مواطنا صالحا يتعاون معهم على البر والخير، ولا يتعاون على الإثم والعدوان.
ولهذا كله نرى مطمئنين إلى فتوانا أنه يجوز قتل المتهم المذكور.
والله أعلم