للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[أهل الفترة]

المفتي

محمد بخيت.

ربيع الأول ١٣٣٨ هجرية - ٢٥ نوفمبر ١٩١٩ م

المبادئ

أهل الفترة مكلفون بالإيمان والتوحيد بمجرد بعثة آدم.

فمن كان منهم مؤمنا بالله وحده كان كافيا

السؤال

من محمد محمد الجزايرى بما صورته نعوذ بالله من معضلة ليس لها إلا العلماء الراسخون فى العلم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله القائل فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون والصلاة والسلام على رسوله محمد الأمين المأمون وعلى آله وأصحابه مادامت السموات والأرضون أما بعد، فهذا سؤال إلى حضرات العلماء الأعلام جعلهم الله نورا للأنام كاشفين من غوامض العلم اللثام ماقولكم دام فضلكم فى رجلين تنازعا فى مسألة غريبة بالنسبة إلى عوام المسلمين فادعى أحدهما أن أهل الفترة ناجون لعدم وجود الرسول وادعى الثانى بأنهم غير ناجين لمجئ الرسل عامة بالتوحيد من لدم آدم إلى عيسى عليهم السلام وتمادى بينهما النزاع إلى أن تكلما فى أبوى المصطفى صلى الله عليه وسلم فقال الأول هما ناجيان حيث أنهما من أهل الفترة ولقوله صلى الله عليه وسلم (فأنا خيار من خيار من خيار) ولقوله (خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح) وقال الثانى أنهما ماتا مشركين واستدل بالحديث المروى عن ابن عباس ولفظه (أنه لما فتح الله مكة على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل أى والديه أحدث به عهدا فقيل أمك فذهب إلى قبرها ووقف معتبرا يبكى فقال عمر رضى الله عنه يارسول الله نهيتنا عن الزيارة والبكاء.

وزرت وبكيت فقال قد أذن لى فيه ولما رأيت ما هى فيه من عذاب الله وإنى لا أغنى عنها من الله شيئا فبكيت رحمة لها) وهذا الحديث موجود فى تفسير الفخر الرازى وأبى السعود على هامشه وفى البيضاوى وفى مصابيح السنة للإمام البغوى وكثير من الكتب وعدوه سببا لنزول قوله تعالى {ما كان للنبى والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى} التوبة ١١٣، الخ واستدل أيضا بالحديث المروى عن الإمام على وهو أنه سمع رجلا يستغفر لأبويه فقال أتستغفر لهما وهما مشركان فقال الرجل قد استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك فحكى ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل قوله تعالى {ما كان للنبى والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين} الآية - واستدل أيضا بالحديث المروى عنه وهو أن رجلا سأل النبى صلى الله عليه وسلم فقال - كان أبى فى الجاهلية يصل الرحم ويقرى الضيف ويمنح من ماله وأين أبى فقال أمات مشركا فقال نعم، قال فى ضحضاح من نار، فولى الرجل يبكى فدعاه صلى الله عليه وسلم فقال إن أبى وأباك وأبا إبراهيم فى النار، واستدل أيضا بقوله صلى الله عليه وسلم (استأذنت ربى فى زيارة قبر أمى فأذن لى واستأذنته فى الاستغفار لها فلم يأذن لى) - وهذا الحديث موجود فى مصابيح السنة للامام البغوى وكشف الغمة للشعرانى وأيضا حمل قوله تعالى {وتقلبك فى الساجدين} الشعراء ٢١٩، على أنه صلى الله عليه وسلم يتفقد المصلين ويقلب بصره فيهم وينظرهم من خلفه كما ينظرهم من أمامه، وعلى تسليم أنه يتقلب فى أصلاب الساجدين وبطون الساجدات فهذا محمول على ماقبل انتقال النور المحمدى من أحد أصوله إلى من بعده فإذا انتقل منه جاز أن يعبد غير الله كما فى فتح البيان نقلا عن الحفناوى مع أن الجمهور على خلاف ما ادعاه الرجل الأول فى تفسير هذه الآية، وأيضا اتفق الجمهور على أن آزر مات مشركا كما صرح به القرآن وما جاز على أحد والديه يجوز على الباقين بعد اتفاقهم أيضا على أن نسبه صلى الله عليه وسلم ينتهى إلى إسماعيل عليه السلام فأوى الرجلين على الصواب وهل أهل الفترة ناجون مطلقا أو هالكون مطلقا مع أن العلماء قسموهم ثلاثة أقسام كما فى شرح مسلم وهل والدا المصطفى صلى الله عليه وسلم داخلان فى أهل الفترة مع ورود هذه النصوص أم لا ولو اعتقد معتقد أنهما ماتا على الشرك هل يكفر أم لا مع هذا الخلاف وما حكم من يحكم عليه بالكفر وهل هذه المسألة من ضروريات الدين يجب على المكلف تحصيلها أم لا أفتونا مأجورين ولازلتم ملجأ للحائرين ودليلا للمسترشدين

الجواب

اطلعنا على هذا السؤال - ونفيد أنه قال فى شرح مسلم الثبوث بصحيفة ٩٨ جزء ثان ما نصه (وأما الواقع فالمتوارث من لدن آدم أبى البشر إلى نبينا ومولانا أفضل الرسل وأشرف الخلق محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يبعث نبى قط أشرك بالله طرفه عين) وعليه نص الإمام أبو حنيفة فى الفقه الأكبر وفى بعض المعتبرات أن الأنبياء عليهم السلام معصومون عن حقيقة الكفر وعن حكمه بتبعية آبائهم.

وعلى هذا فلا بد من أن يكون تولد الأنبياء بين أبوين مسلمين أو يكون موتهما قبل تولدهم لكن الشق الثانى قلما يوجد فى الآباء ولا يمكن فى الأمهات.

ومن ههنا بطل ما نسبه بعضهم من الكفر فى أم سيد العالم مفخر بنى آدم صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم وذلك لأنه حينئذ يلزم نسبة الكفر بالتبع وهو خلاف الإجماع، بل الحق الراجح هو الأول، وأما الأحاديث الواردة فى أبوى سيد العالم صلوات الله وسلامه عليه وآله وأصحابه فمتعارضة مروية آحادا فلا تعويل عليها فى الاعتقاديات، وأما آزر فالصحيح أنه لم يكن أبا إبراهيم عليه السلام بل أبوه تارح كذا صحح فى بعض التواريخ وإنما كان آزر عم إبراهيم ورباه الله تعالى فى حجره والعرب تسمى العم الذى ولى تربية ابن أخيه أبا لم وعلى هذا التأويل قوله تعالى {وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر} الأنعام ٧٤، وهو المراد بما روى فى بعض الصحاح أنه نزل فى أب سيد العالم صلى الله عليه وآله واصحابه {ما كان للنبى والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم} فإن المراد بالأب العم.

كيف لا وقد وقع صريحا فى صحيح البخارى أنه نزل فى أبى طالب.

هذا وينبغى أن يعتقد أن آباء سيد العالم صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم من لدن أبيه إلى آدم كلهم مؤمنون وقد بينه السيوطى بوجه أتم - وفى الفتاوى الحامدية بصحيفة ٣٣ جزء ثان طبعة أميرية سنة ١٣٠٠ أنه قد وردت أحاديث دالة على طهارة نسبه الشريف عليه الصلاة والسلام من دنس الشرك وشين الكفر - ومن ذلك يعلم أنه لا شك ولا شبهة فى موت أبوى النبى صلى الله عليه وسلم على الإيمان، وأنه لا حاجة إلى التمسك بالحديث الضعيف من أن الله سبحانه وتعالى أحيا أبويه وآمنا به وأن محل كون أن الإيمان لا ينفع بعد الموت فى غير الخصوصية لأن ذلك يرجع إلى تخصيص القواعد العقلية القاضية بانتهاء التكليف بالموت، وأنه لا تكليف بعده ولا إلى ما تكلفه بعض العلماء فى ذلك، ومن هذا يعلم أيضا أن أحد الرجلين المتنازعين القائل بأن أبوى النبى صلى الله عليه وسلم ناجيان هو الذى على الصواب لا لما قاله من أن أهل الفترة ناجون، ولا لقوله تعالى {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} الإسراء ١٥، بل نجاتهما لأنهما كانا على الإيمان وماتا عليه وأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون عن حقيقة الكفر وعن حكم تبعية آبائهم إلى آخر ما تقدم.

وأما أهل الفترة فالحق أنهم مكلفون بالإيمان وجميع ما اتفقت عليه الشرائع وكان معلوما مشهورا لما قرره المحققون من الأصوليين من أن لا حكم قبل الشرع أى قبل البعثة لأحد من الرسل فالأحكام موجودة فكل من بلغته الأحكام فيما يتعلق بالإيمان أو غيره كان مكلفا به ولم تختلف الشرائع فى وجوب الإيمان والتوحيد فالخطاب به معلوم لكل من بلغته دعوة أى رسول كان.

فان جميع المكلفين من لدن بعثة آدم الذى هو أول الرسل بعثا إلى أن تنتهى دار التكليف مخاطبين شرعا بوجوب الإيمان والتوحيد وأما بعد البعثة ولو لواحد من الرسل فلا خلاف فى وجود الأحكام ووجوب العمل بها على من بلغته.

وأما أهل الفترة الذين هم قوم كانوا بين رسولين فلم يدركوا الأول ولا أدركوا الثانى، فاختلاف العلماء فيهم إنما هو فيما اندرس من الشرائع وخفيت فيه الأحكام على هؤلاء القوم، فذهب فريق إلى أن الأصل فيما اندرست أحكامه هو الإباحة، وقال فريق هو الحظر، وقال فريق بالوقف وهذا الخلاف بين أثمتنا أهل السنة فى حكم هؤلاء بعد البعثة وكل فريق من هذه الفرق يستند فى قوله إلى الدليل الشرعى وهذا الخلاف غير الخلاف الذى وقع بين المعتزلة أنفسهم فى الأفعال التى خفيت فيها المصلحة والمفسدة أو انتفاؤهما ولم تكن ضرورية للعباد واختلفوا فيها على ثلاثة أقوال أيضا الإباحة والحظر والوقف، فإن هذا الخلاف الذى هو بين المعتزلة موضوعه فيما قبل البعثة لأحد من الرسل وفيمن لم تبلغه دعوة أحد من الرسل أصلا.

وأهل السنة ينفون الحكم أصلا قبل البعثة لأحد من الرسل فليس عند أهل السنة قبل البعثة لأحد من الرسل شىء من الأحكام لاحظ ولا إباحة ولا غيرها.

وأما خلافهم فى أهل الفترة على الأقوال الثلاثة المتقدمة فإنما هو بعد ورود الشرع، وخاص بمن درس فيه الشرائع، وأما ما اتفقت عليه الشرائع كالإيمان والتوحيد والزنا والقتل فلا خلاف فى التكليف به لكل من اجتمعت فيه صفات التكليف بلا فرق بين أهل الفترة وغيرهم، كما فصلنا ذلك على الوجه الحق فى كتاب البدر الساطع على جمع الجوامع.

ومن ذلك يعلم أن أهل الفترة الذين ولدوا بعد عيسى عليه الصلاة والسم وقبل بعثة سيد الحق جميعا ومنهم أبو المصطفى عليه الصلاة والسلام مكلفون بالإيمان والتوحيد بمجرد بعثة آدم خصوصا وأن رسالة سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام كانت عامة ولم تنسخ إلا فيما خالفها مما يتعلق ببنى إسرائيل فى شريعتهم فمن كان منهم مؤمنا بالله وحده كان ناجيا ومن لم يكن مؤمنا أو ارتكب قتل النفس بغير حق كان عاصيا مخلدا فى النار إن كان كافرا وإلا فلا، وأما ما يتعلق بالاعتقاد فقد قال فى الفتاوى الحامدية بصيحفة ٣٣١ من الجزء المذكور سئل القاضى أبو بكر بن العربى أحد أئمة المالكية رحمه الله تعالى عن رجل قال إن آباء النبى صلى الله عليه وسلم فى النار فأجاب بأنه ملعون لأن الله تعالى يقول {إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله فى الدنيا والآخرة} الأحزاب ٥٧، قال ولا أذى أعظم من أن يقال عن أبيه أنه فى النار وقال الإمام السهيلى رحمه الله تعالى فى الروض الأنف (وليس لنا نحن أن نقول ذلك فى أبويه عليه الصلاة والسلام لقوله عليه الصلاة والسلام لا تؤذوا الأحياء بسبب الأموات والله تعالى يقول {إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله فى الدنيا} وقد أمرنا أن نمسك اللسان إذا ذكر أصحابه رضى الله عنهم بشىء يرجع إلى العيب والنقص فيهم.

فلأن نمسك ونكف عن أبويه أحق وأحرى إذا تكرر ذلك فحق المسلم أن يمسك لسانه عما يخل بشرف نسب نبيه عليه الصلاة والسلام بوجه من الوجوه ولا خفاء فى أن إثبات الشرك فى أبويه إخلال ظاهر بشرف نسب نبيه الطاهر، وجملة هذه المسائل ليست من الاعتقاديات فلاحظ للقلب فيها، وأما اللسان فحقه الإمساك عما يتبادر منه النقصان خصوصا عند العامة لأنهم لا يقدرون على دفعه وتداركه) .

ومن ذلك يعلم أن الرجل الثانى الذى قال بموت أبوى النبى صلى الله عليه وسلم على الكفر قد أخطأ خطأ بينا يأثم ويدخل به فيمن آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن لا يحكم عليه بالكفر لأن المسألة ليست من ضروريات الدين التى يجب على المكلف تفصيلها هذا هو الحق الذى تقتضيه النصوص وعليه المحققون من العلماء والله أعلم

<<  <  ج: ص:  >  >>