قرأت فى بعض الأحاديث النهى عن الزراعة وفى بعضها التشجيع عليها، فكيف نوفق بين هذه الأحاديث؟
الجواب
تقدم القول فى صفحة " ٥٤٦ " من المجلد الأول من هذه الفتاوى عن حديث النهى عن اتخاذ الضيعة، وهى كما قال ابن الأثير: ما يؤخذ منها معاش الرجل كالصناعة والتجارة والزراعة وغير ذلك. وبينَّا أن النهى عن ذلك محله إذا ألهى عن الدين وعن الآخرة.
وهذا ما تعرض له الحافظ ابن حجر فى فتح البارى "ج ٥ص ٦، ٧" عند شرح حديث "ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة" قال: وفى الحديث فضل الغرس والزرع والحض على عمارة الأرض ويستنبط منه اتخاذ الضيعة والقيام عليها، وفيه فساد قول من أنكر ذلك من المتزهدة، وحمل ما ورد من التنفير عن ذلك على ما إذا شغل عن أمر الدين. فمنه حديث ابن مسعود مرفوعا "لا تتخذوا الضيعة فترغبوا فى الدنيا" الحديث. قال القرطبى: يجمع بينه وبين حديث الباب -فضل الغرس -بحمله على الاستكثار والاشتغال به عن أمر الدين. وحمل حديث الباب على اتخاذها للكفاف أو لنفع المسلمين بها وتحصيل ثوابها.
ثم أورد ابن حجر حديث أبى أمامة الباهلى [واسمه صُدَى بن عَجْلان] فى التحذير من احتراف الزراعة حين رأى آلة تحرث بها الأرض فقال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لا يدخل هذا بيت قوم إلا أدخله الله الذل " وفى رواية أبى نعيم "إلا أدخلوا على أنفسهم ذلاًّ لا يخرج عنهم إلى يوم القيامة " وحمل ذلك على ما يلزمهم من حقوق الأرض التى تطالبهم بها الولاة، وكان العمل فى الأراضى أول ما افتتحت على أهل الذمة، فكان الصحابة يكرهون تعاطى ذلك - قال ابن التين: هذا من إخباره صلى الله عليه وسلم بالمغيبات، لأن المشاهد الآن أن أكثر الظلم إنما هو على أهل الحرث. وجمع بين ما ورد فى فضل الزراعة وفى ذمها بأن الذم إذا أدى إلى الذل، أو تضييع الواجب، أو فى وقت الجهاد حتى لا تشغل الزراعة عنه فيقوى العدو، بل يستعد بالتدرب على الفروسية، وعلى غيره إمداده بما يحتاج إليه.
والخلاصة أن الإنسان فى نشاطه لابد أن يعمل فى دنياه ما يساعده على أعمال البر، ولا ينسيه آخرته، والتنسيق واجب حتى لا يفرط فيما يحفظ عليه حياته ويقويه على عمل الخير ويدخره للآخرة، ولا يجوز فصل بعض النصوص عن بعضها الآخر، فقد يكون لكل نص سبب وظروف تختلف عن النص الآخر، وقد يكون الجمع بينها بتخصيص العام أو تقييد المطلق أو بغير ذلك مما بينه العلماء. وعدم مراعاة هذا المنهج يؤدى إلى نتائج خطيرة فى سوء الفهم وسوء التطبيق، وهو الانحراف الذى يسبب المتاعب للفرد والمجتمع، ويشوه صورة الدين عند من يكيدون للإسلام وأهله، وما أكثرهم فى هذه الأيام. فمن يرد الله به خيرا يفقهه فى الدين. وسؤال أهل الذكر عند الجهل واجب. كما نص عليه القراَن الكريم وجاء به حديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
راجع رسالة " الاكتساب فى الرزق المستطاب " لمحمد بن الحسن الشيبانى