للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[حكمة تكرار القصة فى القرآن]

المفتي

عطية صقر.

مايو ١٩٩٧

المبادئ

القرآن والسنة

السؤال

ذكرت قصة سيدنا موسى فى القرآن أكثر من مرة وموضوعها واحد، مع تشابه النصوص فى كل موضع، والتكرار فى النص الأدبى يضعفه فكيف يتناسب ذلك مع إعجاز القرآن وبلاغته؟

الجواب

قص القرآن الكريم هو أحسن القصص صدقا وبلاغة، قال تعالى {نحن نقص عليك نبأهم بالحق} الكهف: ١٣،وقال {تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا} هود: ٤٩، وتتضح حكمة هذا القصص من قوله تعالى {وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك فى هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين} هود:١٢٥.

وإذا كان هناك تكرار فى القرآن للقصة الواحدة فلا ينبغى أن يغيب عن أذهاننا أن القراَن لم ينزل مرة واحدة حتى يعاب التكرار، ولكنه نزل منجما مفرقا على مدى ثلاث وعشرين سنة، تنزل الجملة منه بحسب الظروف الطارئة، والقصة الواحدة قد تصلح لكل هذه الظروف، متسقة معها مراعاة لمقتضى الحال، وذلك هو سر البلاغة التى نزل بها القرآن فى أعلى درجاتها.

والنظرة العابرة إلى القصة التى نزلت عدة مرات قد يفهم منها أنها متشابهة متماثلة تماما، لكن النظرة الدقيقة ترينا أن الحكمة فى موضع يركز فيها على جانب منها وتكون الجوانب الأخرى تابعة ومكملة، لأن المقام يقتضى إبراز هذا الجانب، بينما تراها هى فى موضع آخر يركَّز فيها على جانب معين منها كان فى غيرها من التوابع المكملة، وذلك لاقتضاء المقام له أيضا، ولذلك قد يهمل فى بعضها لفظ أو يترك تعيين اسم يوجد له داع للذكر، أو التعيين فى مقام آخر، ومن هنا كانت متغايرة وليست متشابهة، بالنظر إلى الجانب الذى كان عليه التركيز فى كل منها.

وليست قصة موسى هى وحدها التى تكررت فى القرآن، فإلى نجانبها قصص لرسل آخرين، تحمل هذه الحكمة التى فى قصة موسى، وقد يرشح للاهتمام بها تشابه ظروف الدعوة أكثر بين موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وبخاصة أن عددا كبيرا من اليهود كانت موجودا فى المدينة وكان لهم دور كبير فى مقاومة الدعوة على أن قضية ضعف النص الأدبى بتكراره ليست دائمة مسلَّمة، فقد يكون لتكراره ما يجعله بليغا حتى لو كان متشابها تمام التشابه فى تركيبه، سواء منه المفردات والجمل، وكان من البلاغة العربية تكرار اسم الحبيب فى البيت الواحد من الشعر تعميقا لحبه وإيذانا بشرفه.

ألا حبذا هند وأرض بها هند * وهند أتى من دونها النأى والبعد وتكرار قوله تعالى فى سورة الرحمن {فبأى آلاء ربكما تكذبان} إحدى وثلاثين مرة تنبيه على أن كل نعمة من النعم التى احتوتها تستحق أن يذكر بها حتى لا تنسى وحتى يعرف فضل المنعم بها وتكرار قوله تعالى فى سورهَ المرسلات {ويل يومئذ للمكذبين} عشر مرات، وهى قصيرة أيضا كسورة الرحمن، دليل على أن المقام يقتضى التنبيه والتحذير عند كل ما يذكر من موجبات هذا التحذير.

وبهذا لا مجال للطعن فى بلاغة القرآن الكريم، الذى تحدى الله به الجن والإنس وما يزال يتحدى، ومن تعمق فى المعوقة والتدبر أدرك أنه ما يزال على الشاطئ ولم ينزل بَعْدُ إلى البحر بأعماقه المليئة بالأسرار، فهو صنع الله الذى أتقن كل شىء {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد} فصلت: ٤٢

<<  <  ج: ص:  >  >>