[الطلاق فى حالة المغضب والاكراه الأدبى]
المفتي
جاد الحق على جاد الحق.
صفر ١٤٠٠ هجرية - ١٠ يناير ١٩٨٠ م
المبادئ
١ - لا يقع طلاق الغضبان إذا بلغ الغضب به نهايته بحيث لا يدرى ما يقوله ولا يقصده أو يصل إلى حالة الهذيان فيغلب الخلل والاضطراب فى أقواله وأفعاله.
٢ - إقراره بطلاقها رسميا فى إشهاد الطلاق وهو فى حالة من حالتى الغضب السابقتين لا يرفع أثره نظاما وتوثيقا إلا حكم من المحكمة المختصة.
٣ - طلاق المكره غير واقع قانونا
السؤال
بالطلب المتضمن أن السائل متزوج من نحو ستة عشر عاما وله ابن سنه أربعة عشر عاما، وقد حدثت خلافات بينه وبين زوجته كان من نتيجتها أن أثبت طلاقها رسميا لدى المأذون فى إشهاد قرر فيه أنه طلقها مرتين، مع أن إحدى هاتين المرتين كان الطلاق فيها فى حالة غضب شديد، والأخرى التى كانت بتاريخ الإشهاد كانت فى حالة عادية، ثم حدث بعد هذا أن قامت أزمة خلاف شديد احتدم بينهما، وتألمت منه الزوجة ألما نفسيا شديدا دفعها إلى تهديده بالانتحار إن لم يطلقها، ولعله لظروفها النفسية وظرفه الاجتماعى ورغبة فى تهدئة خاطرها ومنعا لها من إتمام تنفيذ تهديدها حيث كان نصفها خارج البلكونة من الدور الثامن نطق بالطلاق بقوله أنت طالق فى مواجهتها.
فهل الطلاق الذى نطق به السائل وقت غضبه والطلاق الذى نطق به فى حال محاولتها الانتحار بإلقاء جسدها من البلكونة فى الدور الثامن، هل هذان الطلاقان واقعان شرعا مع هذه الظروف أم لا
الجواب
نص الفقهاء على أن طلاق الغضبان لا يقع فى حالتين الحالة الأولى أن يبلغ به الغضب نهايته فلا يدرى ما يقوله ولا ما يقصده.
الحالة الثانية ألا يبلغ به من الغضب هذه الحالة ولكنه يصل به إلى حالة الهذيان فيغلب الخلل والاضطراب فى أقواله وأفعاله، أما إذا كان الغضب أخف من ذلك وكان لا يحول دون إدراك ما يصدر منه ولم يستتبع خللا فى أقواله وأفعاله وكان يعى ما يقول.
فإن الطلاق فى هذه الحالة يقع من غير شبهة. واختلف فقهاء الشريعة فى وقوع طلاق المكره أو عدم وقوعه فذهب الفقه الحنفى إلى وقوع الطلاق مع الإكراه، وذهب فقهاء المالكية والشافعية والحنابلة إلى أن طلاق المكره غير واقع.
لحديث (رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) وبهذا النظر جاء حكم المادة الأولى من القانون رقم ٢٥ لسنة ١٩٢٩ حيث قررت أن طلاق السكران والمكره لا يقع، واختلف أصحاب هذا الرأى فى مدى الإكراه وشروطه، ففى الفقه المالكى أن الإكراه على إيقاع الطلاق بالقول لا يلزم به شىء لا قضاء ولا ديانة بشرط أن لا ينوى حل عقدة الزواج باطنا.
ثم إن الإكراه الذى لا يقع به الطلاق هو أن يغلب على ظن المكره أنه إن لم يكن الطلاق يلحقه أذى مؤلم من قتل أو ضرب كثيرا أو قليلا أو سجن وإن لم يكن طويلا أو يغلب على ظنه أنه إن لم يطلق يقتل ولده أو يلحقه أذى ومثل الولد الوالد.
ففى هذه الأحوال إذا طلق لا يقع الطلاق.
ومثل التهديد بما سلف، التهديد بإتلاف المال أو أخذه ولو كان يسيرا على المعتمد فى المذهب (حاشية الدسوقى على الشرح الكبير ج - ٢ ص ٤١٥ وما بعدها) .
وفى الفقه الشافعى أن الإكراه يحصل بالتخويف فى نظر المكره كالتهديد بالضرب الشديد أو الحبس أو إتلاف المال.
وتختلف الشدة باختلاف طبقات الناس وأحوالهم، فالوجيه الذى يهدد بالتشهير به أو الاستهزاء به أمام الملأ يعتبر ذلك فى حقه إكراها.
والشتم فى حق رجل ذى مروءة إكراه. ومثل ذلك التهديد بقتل الولد أو الفجور به أو الزنا بامرأته، إذ لا شك فى أنه إيذاء يلحقه أشد من الضرب والشتم.
ومثل ذلك التهديد بقتل أبيه أو أحد عصبيته وإن علا أو سفل أو إيذاء بجرح وكذلك التهديد بقتل قريبه من ذوى أرحامه أو جرحه أو فجور به كل ذلك يعتبر إكراها.
وقال الفقهاء الشافعيون إن طلاق المكره لا يقع بشروط أن يقع التهديد بالإيذاء من شخص قادر على تنفيذ ما هدد به عادلا، وأن يعجز المكره عن دفع التهديد.
وأن يظن المكره أنه إن امتنع عن الطلاق يقع الإيذاء الذى هدد به، وأن لا يكون الإكراه بحق وأن لا يظهر من المكره نوع اختيار وأن لا ينوى الطلاق (تحفة المحتاج وحواشيها بشرح المنهاج ج - ٨ ص ٣٦ فى كتاب الطلاق) .
ويشترط الفقه الحنبلى لعدم وقوع طلاق المكره أن يكون الإكراه بغير حق، وأن يكون بما يؤلم كالقتل أو قطع اليد أو الضرب الشديد أو ضرب يسير لذى مروءة، أو أخذ مال كثير أو إخراج من الديار، أو تعذيب لولده بخلاف باقى الأقارب، وأن يكون المهدد قادرا على تنفيذ ما هدد به، وأن يغلب على ظن المكره أنه إن لم يطلق يقع به الإيذاء المهدد به.
وأن يعجز عن دفع ما هدد به (المغنى لابن قدامه الحنبلى ج - ٧ ص ٣١٥ فى كتاب الطلاق) .
ومن هذا العرض الموجز لأقوال فقهاء المالكية والشافعية والحنابلة فى الإكراه الذى لا يقع معه الطلاق وشروطه يظهر أن الفقه الشافعى هو الذى اتسعت فيه دائرة الإكراه، حيث يتضح من الأمثلة المضروبة فيما سبق أنهم لا يقصرون الإيذاء الواقع بالإكراه على ذات المكره فقط، بل إذا كان الإكراه بايذاء بقتل أو فجور أو قطع أو ضرب أحد عصبته أو ذوى رحمه كما مثلوا بالزنا بامرأة المكره.
وأن تلك الأمثلة بوجه عام تعنى أن فقهاء هذا المهذب قد راعوا ما نسميه الآن بالإكراه الأدبى.
لما كان ذلك وكان السائل قد قرر فى طلبه أنه أوقع الطلاق الأخير بلفظ صريح نزولا على طلب زوجته التى أقدمت على الانتحار بإلقاء نفسها من شرفة المسكن بالدور الثامن، وكان نصف جسدها فى الهواء خارج الشرفة دخل هذا الفعل منها فى باب الإكراه الأدبى لزوجها السائل.
تخريجا على الأمثلة التى ذكرها فقهاء الشافعية، لكن يلزم توافر الشروط التى اشترطها هؤلاء الفقهاء لعدم وقوع الطلاق.
وموجزها أن تكون هذه الزوجة وقت التهديد قادرة على فعل ما هددت به وأقدمت عليه فعلا وأن يكون السائل فى حالة عجز بنفسه أو باستغاثة عن منعها من الانتحار بهذا الطريق.
وأن يغلب على ظنه إصرارها على الانتحار إن لم يوقع الطلاق فى الحال.
وأن لا يظهر منه نوع اختيار كما إذا أكره على الطلاق بلفظ محدد فنطق بلفظ آخر.
وأخيرا أن لا ينوى الطلاق وقت التلفظ به حال الإكراه، بمعنى أن لا يوافق لفظه نية مستقرة فى قلبه بالطلاق.
فإذا توافرت هذه الشروط فى حال السائل فإنه يكون مكرها إكراها أدبيا، فلا يقع باللفظ الذى صدر منه فى حال إقدام زوجته على الانتحار بالكيفية الموضحة بالسؤال طلاق.
وأمر التحقق من توفر هذه الشروط متروك له شخصيا.
وعليه الإثم إن لم تكن الشروط متحققة.
أما عن الطلاق الذى قال إنه أوقعه فى حال غضب شديد، فإنه إذا كان الغضب قد بلغ به واحدا من الحالتين الموصوفتين فإن طلاقه الذى نطق به حال الغضب غير واقع، وإذ أقر به فى ورقة رسمية هى إشهاد الطلاق فلا يرفع أثره نظاما وتوثيقا إلا حكم من المحكمة المختصة.
أما إذا كانت حالة الغضب ليست فى نطاق واحدة من تلك الحالتين بل كانت فى نطاق الحالة الثالثة من حالات الغضب فإن الطلاق فيها واقع، وعليه أيضا عبء تقدير درجة غضبه بنفسه، أو بمن شاهده حال الغضب ممن يوثق بدينهم فليتق الله السائل فى تقدير ظروف الإكراه والغضب، وانطباقها فعلا على ما تقدم من بيان.
لأن الأمر متعلق بحل وحرمة عشرته لزوجته. والله سبحانه وتعالى أعلم