[التفسير العلمى للقرآن]
المفتي
عطية صقر.
مايو ١٩٩٧
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل العلوم التى اكتشفت حديثا توجد فى القرآن، وهل هناك حاجة إلى تفسير القرآن تفسيرا علميا على ضوء الاكتشافات الحديثة؟
الجواب
سبق فى ص ١١٦ من المجلد الثالث من هذه الفتاوى بيان أن مهمة القرآن هى الإعجاز والهداية، وأن ما فيه من حقائق علمية تدعو إلى النظر والتأمل، وزيادة فى الإيضاح وإجابة على السؤال نقول:
هذه القضية ثار حولها الجدل والنقاش، وانقسم الناس فيها فريقين:
(أ) فريق يقول: نعم فى القرآن توجد العلوم والمكتشفات الحديثة.
ونحن فى حاجة إلى تفسير علمى، بمعنى استخلاص هذه المحدثات من ألفاظ القرآن، وحمل الألفاظ عليها. واستند هذا الفريق فى رأيه إلى ما يأتى:
١ـ أن الله تعالى قال {ما فرطنا فى الكتاب من شىء} [الأنعا م: ٣٨] .
أى ليس فى الحياة شىء إلا وهو موجود فى القرآن. فذكرت فيه الميكروبات والكهرباء والذرة والصواريخ والطائرات وغيرها.
ونوقش هذا الدليل بأن المراد بالكتاب هو اللوح المحفوظ الذى أثبت الله فيه مقادير الخلق، ما كان منها وما يكون، حسب النظام المعبَّر عنه بالسنن الإلهية. أو هو علم الله المحيط بكل شىء الثابت فيه كل معلوم، وإذا أريد بالكتاب القرآن فليس لفظ الشىء على عمومه، بل المراد به الشىء الذى هو موضوع الدين، وهو الهداية التى من أجلها نزل القرآن، فالعموم فى كل شئ بحسبه.
٢ـ كما استند إلى أن نشر الإسلام فى هذه الأيام يحتاج إلى التحدث عنه بأسلوب العصر وطرائق فهمه، لبيان تجاوب الدين والقرآن مع الحياة فى كل أطوارها.
ونوقش بأن نشر الإسلام لا يتوقف على ذلك، فأصول الهداية فيه، والنصوص الدالة على النظر والبحث وتقديس العقل كافية فى بيان تجاوبه مع أرقى الحضارات وأزهى العصور.
وبهذا نرى أن حجة هذا الفريق واهية أو فيها مناقشة تضعف الاستدلال بها على المقصود.
(ب) والفريق الآخر يقول ليس القرآن كتاب تعليم وتسجيل لمكتشفات العصور بأشخاصها، ولا يحتاج إلى أن نحمل ألفاظه على أسلوب العصر ونضمنها نظرياته وعلومه. وحجتهم فى ذلك:
١ـ عدم حاجة الشريعة فى فهم كتابها وتعرف مبادئها، إلى العلوم الكونية والرياضيات وما إليها. وحمل ألفاظ القرآن عليها فيه تعسف وتحميل لها لما لا تطيق.
٢ـ أن القرآن موجَّه أولا إلى من نزل فيهم وهم العرب، وليس لهم عهد بهذه العلوم التى لم تعرفها الدنيا إلا بعد قرون، فإذا قصد القرآن إليها وآياته لا تفهم إلا بالوقوف عليها، كان كلاما غير مطابق لمقتض الحال، وحاشاه أن يكون كذلك، فوجب أن نقف بعباراته عند فهم العرب الخلص، ولا نتجاوز ما ألفوه من علومهم، يقول الشاطبى فى كتابه " الموافقات ج ٢ ص ٥٢ ": ما تقرر من أمية الشريعة وأنها جارية على مذاهب أهلها وهم العرب ينبنى عليه قواعد، منها: أن كثيرا من الناس تجاوزوا فى الدعوى على القرآن الحد، فأضافوا إليه كل علم يذكر للمتقدمين أو المتأخرين، من علوم الطبيعيات والتعاليم والمنطق وعلم الحروف وجميع ما نظر فيه الناظرون من هذه الفنون وأشباهها. وهذا إذا عرضناه على ما تقدم لم يصح، ولهذا فإن السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن يليهم كانوا أعرف بالقرآن وعلومه وما أودع فيه، ولم يبلغنا أنه تكلم أحد منهم فى شىء من هذا المدعى سوى ما تقدم من أحكام ... وما يلى ذلك. ولو كان لهم فى ذلك خوض ونظر لبلغنا منه ما يدلنا على أصل المسألة، إلا أن ذلك لم يكن، فدل على أنه غير موجود عندهم، وذلك دليل على أن القرآن لم يقصد فيه تقرير لشىء مما زعموا.
٣ـ أن النظريات العلمية عرضة للتبديل والتغيير، فإذا حملنا عليها ألفاظ القرآن كان فهم آياته عرضة للتغيير والتبديل مما يبعث على الشك ويؤدى إلى البلبلة والاضطراب.
وقد يناقش الدليل الأول بأن عدم احتياج فهم الشريعة وتبليغها إلى العلوم لا ينافى أنها موجودة فى القرآن،، ويكون الغرض منها الشرح والبيان والإيضاح، ويناقش الدليل الثانى بأن القرآن ليس للعرب فقط ولا لعصرهم السابق، بل هو لكل الناس ولجميع العصور، فلا مانع أن يكون فيه من المعلومات ما لا يعرفه العصر الأول، وسيعرف فيما بعد، ولعل مما يشير إلى ذلك قوله تعالى {سنريهم آياتنا فى الأفاق وفى أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق} [فصلت: ٥٣] وعموم رسالة الإسلام لا يجوز معها قصر فهم القرآن على المألوف عند العرب، فليكن فيه قدر يتضح سره بما ينكشف بعد من علوم كونية ونفسية، وذلك لزيادة الإيضاح لأصل الدليل على صدقه فهو صادق بإعجازه وكفى بالله شهيدًا على ذلك {أو لم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد} .
ويناقش الدليل الثالث، بأن حمل الألفاظ القرآنية على النظريات التى لم تثبت بعدُ لا يجوز أبدا، وإذا حملت فإنما يكون على الحقائق العلمية الثابتة، ذلك لأن كلام الله حق لا يفسَّر بغير الحق، وهو ثابت لا يفسر بغير الثابت، فاللائق هو توضيح الثابت بما ثبت وليس ذلك إلا فى الحقائق العلمية المقررة وهذا كله بشريطة عدم التعسف فى التأويل، بل يترك لفظ القرآن على طبيعته القابلة لكل فهم دفعًا للعقل إلى التفكير والبحث.
٧ـ والرأى الذى أميل إليه يتلخص فيما يلى:ـ (أ) أن القرآن فيه بعض الحقائق العلمية، وقد ذكرت للعبرة والموعظة والتأمل، لا على أنها معلومات للاعتقاد والتكليف والتعليم، وقد عبر الله عنها بالألفاظ العربية والأسلوب المعجز.
وما جاء فيه من المقررات العلمية حق لأنه كلام الله، سواء عرفها الناس عند نزولها أم لم يعرفوها، وعدم علمهم بها لا يغض من شأن القرآن، فهو ميسر للذكر يستطيع كل إنسان أن يأخذ منه القدر الكافى لهدايته، مهما كان مستواه العلمى.
(ب) أن ألفاظ القرآن دقيقة محكمة لأنها صنع الله الذى أتقن كل شىء وأن هناك لونًا من ألوان إعجازه هو الحديث عن بعض المسائل العلمية التى لا عهد لمحمد صلى الله عليه وسلم بالذات بعلمها، ولا عهد للعرب الذين ووجهوا بالقرآن بها، ثم ثبت بعد ذلك صدق هذه المسائل، وذلك للدلالة على أن القرآن ليس من عند محمد، بل هو من عند لله العليم الخبير. وبالتأمل فى بعض هذه التعبيرات نجد أنها محايدة فى الأمور التى يختلف الناس عليها ولم يصلوا بعد إلى معرفة أسرارها، وذلك ليدع مجال الفكر مفتوحا للباحثين، ليصلوا إلى آخر شوط ممكن، وكلما جد البحث بشخص نظر إلى الآية فرآها كأنها معه فى كل خطواته تشجعه ولا تصرح على الأقل بكذبه أو إخفاقه، فيغريه ذلك على متابعة البحث إرضاء لشهوة العقل وحب الاستطلاع. حتى إذا وصل إلى الحقيقة العلمية الثابتة وجد الآية معه أيضًا لم يصبها أى تغب فى موقفها المحايد الذى لا ينحاز إلى باحث معين فى أولى خطوات النظر وفى وسطها حتى يبلغ النهاية. وهو بوصوله إلى الحقيقة سيزداد إيمانًا بصدق القرآن وأنه حق من عند الله، لا من عند محمد الذى لم يتعلم أساليب البحث ليصل إلى هذه النتيجة، وإن لم يصل إلى الحقيقة العلمية بعد طول البحث لا يجوز له أن يشك فى القرآن، بل الأجدر أن يتهم نفسه ويعيد النظر فى أسلوب بحثه عل فيه حلقة مفقودة، أو مقدمة لم تثبت لتستطيع أن تنتج نتيجة صادقة.
وحياد الألفاظ القرآنية فى كثير من مواضعها هو الذى أوجد النشاط الفكرى عند علماء الكلام فى بعض المسائل الكلامية، حيث تكون الآية الواحدة كل يدعى أنها تشهد لرأيه، وكذلك كان هذا الحياد سببًا فى نشاط علماء الشريعة فى استنباط الأحكام الفقهية.
(ج) أن أسلوب القرآن مطابق لمقتضى الحال فى خطابه للعلماء والعامة على السواء، على خلاف الكلام العادى للناس، فهو إما أن يخاطب به المستويات العالية باشتماله على الرمز والإشارة والكناية والاستعارة، وإما أن يخاطب به العامة الذين لا يفهمون إلا الواضح المبسط من الكلام، ولو خوطبت إحدى الطائفتين بغير ما يليق بها لم يكن الكلام بليغًا، أما القرآن الكريم فهو وحده الذى يراه البلغاء أوفى كلام بلطائف التعبير، ويراه العامة أحسن كلام وأقربه إلى عقولهم، فهو متعة الخاصة والعامة على السواء. كما قال سبحانه {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدَّكر} [القمر: ١٧، ٢٢، ٣٢، ٤٠] .
يقول الراغب الأصفهانى فى مقدمة تفسيره: أخرج تعالى مخاطباته فى محاجة خلقه فى أجل صورة تشتمل على أدق دقيق؛ لتفهم العامة من جلتها ما يقنعهم ويلزمهم الحجة؛ ويفهم الخواص من أثنائها ما يوفى على ما أدركه فهم الحكماء، ومن هذا الوجه كل من كان حظه فى العلوم أوفر كان نصيبه من علم القرآن أكثر، ولذلك إذا ذكر تعالى حجة إلى ربوبيته ووحدانيته أتبعها مرة بإضافتها إلى أولى العقل، ومرة إلى أولى العلم؛ ومرة إلى السامعين، ومرة إلى المتذكرين تنبيها على أن بكل قوة من هذه القوى يمكن إدراك حقيقة منها.
(د) أننا فى حاجة إلى من يفسر لنا القرآن على ضوء المقررات العلمية لتتضح معانيه. ويؤمن بها الذين لا يرضون بغير هذا الأسلوب بديلا، فبمقررات علم الحياة والأجنة يمكن توضيح قوله تعالى {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين. ثم جعلناه نطفة فى قرار مكين. ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين} [المؤمنون: ١٢ -١٣] وبمقررات علم الطب يتضح لنا معنى الأذى فى قوله تعالى {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء فى المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن} [البقرة: ٢٢٢] ويتضح سر التحريم لأكل الميتة والدم ولحم الخنزير والموقوذة والمتردية والنطيحة. .
الوارد فى الآية الثالثة من سورة المائدة فكل ما يساعد على كشف أسرار التشريع من العلوم لا بأس به، بل كل ما يوصل إلى الإيمان بالله وإدراك سر الوجود لا بأس به بل هو مطلوب.
وهذا كله على شريطة أن يكون التفسير بالمقررات الثابتة، لا بالنظريات التى ما زالت قيد البحث ومحل اختلاف العلماء. وعلى ألا يكون هناك تعسف فى التأويل وتحميل الألفاظ معانى لم توضع لها، كما سيتضح من عرض الأمثلة آلاتية بعد.
٨ ـ إن تفسير القرآن بالنظريات التى لم تثبت يعد تفسيرا بالرأى المحض، وقصره على رأى بالذات افتراء للكذب على الله. وفى ذلك خطورة كبيرة، لأنها تخضع آيات القرآن للآراء الخاصة، الأمر الذى ضل به كثير من الفرق التى ظهرت فى الإسلام، ولأنها تمنع صلاحية الإسلام العامة أن تكون لكل البيئات والأجيال وأن تكون مناراً هاديا لكل المفكرين، كما أنها تعرض القرآن للطعن فيه بالتكذيب إن جاء ما يثبت خطأ الرأى الأول الذى فسر به.
والإنسان إذا لم يكن متمكنا مما يقول ويرى لا ينبغى أن يحمل القرآن على جهلة وسفهه، فهو حرم مقدَّس لا يقربه إلا العالمون الموقنون. قال إبراهيم التيمى: سئل أبو بكر الصديق رضى الله عنه عن تفسير الفاكهة والأبِّ فقال: أى سماء تظلنى، وأى أرض تقلنى إذا قلت فى كتاب الله ما لا أعلم. وقال أنس. سمعت عمر بن الخطاب رضى الله عنه قرأ هذه الآية ثم قال: كل هذا قد عرفناه، فما الأبُّ؟ ثم رفع عصا كانت بيده وقال: هذا لعمرو الله التكلف، وما عليك يا بن أم عمر ألا تدرى ما الأبُّ. ثم قال: اتبعوا ما بيِّن لكم من هذا الكتاب، وما لا فدعوه "القرطبى ج ٩ ١ ص ٢٢٣ " وذلك كطه من وحى قوله صلى الله عليه وسلم " اتقوا الحديث علىَّ إلا ما علمتم، فمن كذب علىَّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار، ومن قال فى القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار" رواه الترمذى عن ابن عباس. قال ابن عطية: ومعنى هذا أن يسأل الرجل عن معنى فى كتاب الله عز وجل فيتسور عليه برأيه دون نظر فيما قال العلماء، واقتضته قوانين العلم كالنحو والأصول،، وليس يدخل فى هذا الحديث أن يفسر اللغويون لغته والنحويون نحوه، الفقهاء معانيه، ويقول كل واحد باجتهاده المبنى على قوانين علم ونظر، فإن القائل على هذه الصفة ليس قائلا بمجرد رأيه " القرطبى ج ١ ص ٣٢ " وعلى هذا من يفسر القرآن بنظرية غير ثابته فهو يفسر برأيه على غير قوانين العلم والنظر، بخلاف من يفسره بهذه القوانين الثابتة، فهو يعمل عملا مشروعا يوضح ما فى القرآن فقط لا يقصد به إثبات صدقه، فكفى بالله شهيدًا على صدقه.
٩ ـ إن من قواعد المنهج السليم لتفسير القرآن أن تستقصى آياته فى الموضوع الواحد فهى تفسر بعضها بعضا، وخير ما فسرته بالوارد، فقد يكون العام أو المطلق أو المبهم فى آية مخصصا أو مقيدا أو مبينا فى آية آخرى، وهكذا، على أن يراعى السباق والسياق فى فهم المراد من الآية. والخطأ الذى يقع فيه كثير من الباحثين الآن - وكثير منهم غير أهل للتفسير- أساسه عدم مراعاة هذا المنهج، فهم يبترون الآية بترا ويقطعونها عن سابقتها ولاحقتها ويفسرونها كما يريدون، وهم لا ينظرون إلى مثل هذه الآية فى موضع آخر من القرآن حتى يستعينوا بها على تفسيرها، فلهذا يخطئون كثيرا فيما يزعمون. روى البخارى ومسلم أنه لما نزل قول الله تعالى: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} [الأنعام: ٨٢] قال بعض الصحابة:
يا رسول الله وأينا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ليس بذلك، ألا تسمع إلى قول لقمان {إن الشرك لظلم عظيم} . فالظلم الذى نزلت به هذه الآية عرف المراد منه بما نزل فى الآية الأخرى، وهو الشرك.
ومن مظاهر الخطأ فى التفسير لعدم اتباع هذا المنهج أن بعض الباحثين - ولا أقول المفسرين - أراد أن يبرهن على أن الأرض تتحرك وتسير وليست ثابته، فأورد قوله تعالى: {وترى الجبال تحسبها جامدة وهى تمر مر السحاب} [النمل: ٨٨] فمرور الجبال كالسحاب دليل على أن الأرض تتحرك، هكذا يقول. وقد نسى أن الآيات التى اكتنفت هذه الآية تتحدث عن النفخ فى الصور وعن محاسبة الناس على حسناتهم وسيئاتهم، فالجو كله فى يوم القيامة سباقا وسياقا. وليس ذلك فى عالم الدنيا. ونسى أيضًا أن الحديث عن ظاهرة مرور الجبال يوم القيامة ورد فى آيات أخرى من سور القرآن قال تعالى: {يوم تمور السماء مورا.
وتسير الجبال سيرا. فويل يومئذ للمكذبين} [الطور: ٩ - ١١] وقال {إذا الشمس كوِّرت. وإذا النجوم انكدرت وإذا الجبال سيِّرت..} [التكوير: ١ ـ ٣] والمقام كله فى يوم القيامة.
١٠ ـ وهذه بعض الكشوف العلمية التى حاول الكاتبون أن يستدلوا عليها بالقرآن:
١ ـ فى غزو الفضاء قالوا: يدل عليه قوله تعالى: {يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان} [الرحمن: ٣٣] فالسلطان هو العلم وبواسطته نفذ الإنس من الأقطار. ويرد عليه بأن هذه الآية تتحدث عن يوم القيامة، وتبين قدرة الله على محاسبة كل من الإنس والجن ومجازاته لا يستطيع أحد أن ينجو منه إلا بسلطان، أى قدرة عظيمة أو ملك قوى، وليس ذلك لأحد إلا لله. أو تتحدث عن القضاء بالموت على كل حى لا يهرب منه أحد فكل من عليها فان، لا ينجو منه إلا بالسلطان المذكور وهو لا يملكه.
وقال ابن عباس فى تفسيرها: إن استطعتم أن تعلموا ما فى السموات وما فى الأرض فاعلموه ولن تعلموه إلا بسلطان أى ببينة من الله، ومعنى هذا أن الغيب لا يعلمه إلا الله، الذى يطلع عليه من يشاء من عباده. فلو فرض أن المراد بالسلطان هو العلم كما يشير إليه قول ابن عباس، فإن هذه الآية ليست نصًّا فى الزعم الذى يقوله المتحدثون. وعلى ذلك لا تصح دليلا لهم، على أنه لو كان ذلك صحيحًا فما المانع أن يطلع الله بعض الناس على علوم الكون بسلطان العلم، ولكن هل نفذ الإنس بعلمهم من أقطار السموات أيضا، أو نفذوا فقط - إلى الآن - من أقطار الأرض وجاذبيتها، وبقيت السموات حجرًا محجوراً؟ إن كل ما أمكن الوصول إليه من معلومات عن طريق الآلات الحديثة لا يعدو أن يكون فى سماء الدنيا، فإن الكشوف الفلكية والكواكب وأبعادها وسرعة ضوئها ودورانها ما زالت فى إحدى السموات وهى الدنيا، الشمس تبعد عن الأرض ٩٣ مليون ميل كما قال تعالى: {إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب} [الصافات: ٦] فهل يستطيعون أن ينفذوا من أقطار السماء الدنيا كلها ثم يتطلعون إلى بقية السموا ت؟ على أن المقام، كما ذكرت، هو مقام الحساب والجزاء بدليل السباق والسياق، فأولى أن يحمل اللفظ على ما يليق به، ولا داعى للتعسف وطلب دليل من القرآن، فكم من حقائق علمية ثبتت بغير الاستدلال عليها من الكتاب الكريم، ولا ضير فى ذلك أبدًا، على ما علمت من مهمة القرآن فى الهداية والإعجاز.
(ب) استدل بعض العامة من الناس على كروية الأرض بالآية السابقة قائلا إن التعبير بالأقطار يثبت كروية الأرض وكروية السموات، لأن القطر هو الخط الموصل بين نقطتين على المحيط ماراًّ بمركز الدائرة، والأقطار لا تكون إلا للدوائر وهذا بالتالى يثبت الكروية. ويرد عليه بأن القطر الذى يتحدث عنه هذا الشخص اصطلاح هندسى لم تعرفه العرب فهم يعرفون القطر بأنه الجهة والناحية لا الخط المذكور، والنفاذ من الأقطار يكون بالخروج من الجهات والمنافذ لا من الخطوط التى يتصورها المهندسون.
إن كروية الأرض حقيقة ثابتة، وحياة الناس وتطورها مبنى عليها، والدليل على ذلك ليس من القرآن، ولا داعى لالتماسه منه أبدًا، على ما علمت من مهمته فى الإعجاز وهداية الناس.
(ج) دور الرياح فى تلقيح النبات بحمل مادة الذكورة إلى مكانها الذى تلتقى فيه بمادة الأنوثة فيكون الإخصاب، على ما هو مقرر فى علم النبات. استدل عليه البعض بقوله تعالى: {وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقينا كموه} [الحجر: ٢٢] فاللواقح جمع لاقح بمعنى حاملة للقاح، أو ملقحة لغيرها بما تحمله، إن دور الرياح فى نقل اللقاح معروف، ولكن فى أخذه من هذه الآية تعسف وتكلف؛ ذلك أنه لو كان المراد تلقيح النبات لجاء عقبها ما يتحدث عن النبات فيقال مثلا: فزكا الزرع وخرج الثمر ولكن الذى حدث أن الذى جاء بعدها قوله تعالى: {فأنزلنا من السماء ماء فأسقينا كموه} وهذا يشير إلى أن المعنى أن الرياح المحمَّلة ببخار الماء؛ يرسلها الله فتتجمع السحب ويتكاثف البخار ويبرد فى الطبقات الجوية الملائمة فينزل الماء، وهذا هو التنسيق المعقول بين إرسال الرياح اللواقح وإنزال الماء من السماء لسقى الناس. فأولى أن تحمل الآية عليه، ولا يتعسف بحملها على ما يثبت دورها فى تلقيح النبات، فذلك مشاهد بالملاحظة والنظر لا حاجة إلى الدليل النقلى عليه.
(د) قالوا: إن حدود الكون تتسع وتمتد؛ واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: {والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون} [الذاريات: ٤٧] ؛ لكن العلماء قالوا: إن لفظ {موسعون} مأخوذ من أوسع الرجل إذا صار ذا سعة وغنى؛ ومنه قوله تعالى {ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره} [البقرة: ٢٣٦] فالآية تدل على قدرة الله، وقدرته تتجلى فى أشياء كثيرة، ولا مانع أن يكون منها توسيع حدود الكون، فهو الذى خلقه بقدرته وعلمه. فلا ينبغى قصر معنى السعة على هذا الذى يريده علماء الفلك والطبيعة.
(هـ) قالوا: إن كل شىء فى السماء يعتريه ازدياد مفاجئ فى حرارته وحجمه وإشعاعه بدرجة لا تتصورها العقول، وعند ذلك يتمدد السطح بما حوى من لهب ودخان، حتى يحصل على توازنه الدائم، والشمس لم تمر بهذا الدور بعد، فإذا مرت به وتمدد سطحها الخارجى حتى وصل القمر يختل توازن المجموعة الشمسية كلها، وذلك يوم القيامة، ويدل عليه قوله تعالى {فارتقب يوم تأتى السماء بدخان مبين} [الدخان: ١٠] قال المفسرون: إن هذا الدخان من علامات الساعة كما فى صحيح مسلم، وقيل إن الدخان هو ما أصاب قريشًا من الجوع بسبب دعاء النبى صلى الله عليه وسلم عليهم؛ كما رواه البخارى فى حديث يصور هذا الجوع جاء فيه: فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد، فأنزل الله {فارتقب ... } وجاء فيه: أن النبى استقى لهم فسقوا ولكن استمروا على عنادهم فقال الله تعالى: {يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون} يعنى يوم بدر، وقيل إنه غبار الجيش يوم فتح مكة.
(و) قالوا أيضًا مما يشير إلى قلة الأوكسجين فى الطبقات الجوية العليا قوله تعالى: {ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقًا حرجا كأنما يصَّعَّد فى السماء} [الأنعام: ١٢٥] وظاهرة ضيق الصدر تحصل عند الارتفاعات العليا، ومثل هذا واضح لا شك فيه، ويفيد فى تصور المعنى المراد دون أن يمس قدسية القرآن.
كما قالوا: إن الأبعاد والمسافات الشاسعة بين النجوم والتى لا يمكن حساب بعضها يشير إليه قوله تعالى {فلا أقسم بمواقع النجوم} [الواقعة: ٧٥] فإن مجموعات النجوم التى تكون أقرب مجرات السماء منا تبعد عنا بنحو ٧٠٠ ألف سنة ضوئية، والسنة الضوئية تعادل عشرة ملايين الملايين من الكيلو مترات للضوء يقطع فى العام نحو ٨٨، ٥ مليون ميل أى نحو ٦ مليون ميل (مجلة العربى يوليو ١٩٧٠ م) (الضوء يقطع فى الثانية١٨٦٠٠٠ ميل) ٠٠٠، ٣٠٠ ك م فهذه الأبعاد الشاسعة جديرة بأن يقسم الله بها لعظمها، وهذا وجه من وجوه العظمة وقد يكون منها دقة مساراتها وعدم تصادمها وتحديد الجاذبية فى كل منها، فالآية شاملة وعامة.
وقالوا أيضًا: مما يدل على قوة الاستدلال ببصمات الأصابع على شخصية صاحبها قوله تعالى: {بلى قادرين على أن نسوِّى بنانه} [القيامة: ٤] لأن دقة الخطوط واتجاهاتها وعددها لا يكاد يتفق فيها شخصان، فتسويتها يوم القيامة على ما كانت عليه بعد أن كانت ترابًا منثوراً موزعا فى أماكن قاصية دليل قدرة الله تعالى، وهذا وجه من وجوه قدرة الله على بعث الناس يوم القيامة بأجسامهم المشخصة لهم بعد فنائها.
مثل هذه الأمثلة الأخيرة لا يضر توضيح آيات القرآن به أبدا، ولكن الممنوع قصرها على هذه المكتشفات، أو التعسف فى التأويل الذى يخرج به اللفظ عن أصل وضعه اللغوى واستعماله العرفى عند العرب الذين نزل القرآن بلغتهم.
وبعد، فهذا عرض موجز لموقف القرآن من الكشوف العلمية الحديثة رأينا فيه تشجيعه للبحث والنظرة ورأينا دقته حين يعرض لشىء علمى كشف عنه البحث أخيرا، وهذا دليل صدقه وأنه من عند الله وحده أيَّد به رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم. والمقررات العلمية الثابتة ستزيد معانى القران وضوحًا، وهذه صورة من صور التعانق بين العلم والدين، أى العلم الثابت الأكيد ودين الله الذى أنزله هداية للناس جميعًا {سنريهم آياتنا فى الآفاق وفى أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أوَ لم يكف بربك أنه على كل شىء شهيد} فليكن فهمنا له على ضوء لحقائق الثابتة لا النظريات الفجه، ولنحفظ له قدسيته فلا نقول على الله بغير علم، ولا نجعله حمى مستباحا لكل كاتب يجيل فيه قلمه بما ترمى به الأفكار الشاردة،، فليس كل مجال تباح فيه الحرية للجائلين {ألا إنهم فى مرية من لقاء ربهم ألا إنه بكل شىء محيط} [فصلت: ٥٤] .
تتمة:
وردت بعض الأحاديث فى مسائل علمية لم يوافق عليها العلم إلى الآن كحديث الذباب إذا وقع فى الإناء والأمر بغمسه كله لأن فى أحد جناحية داء والآخر دواء، وأحاديث أخرى واردة فى الطب.
ويرى ابن خلدون أن الطب المنقول فى الشرعيات ليس من الوحى فى شىء فإن النبى صلى الله عليه وسلم لم يبعث لتعريف الطب ولا غيره من العاديات وقد وقع له فى شأن تلقيح النخل ما وقع فقال أنتم أعلم بأمور دنياكم. وعلى هذا يجوز أن يكون رأى النبى صلى الله عليه وسلم فى مثل هذه الأمور محتملا للخطأ لأنه من أمور الدنيا. لكن لا ينبغى الحكم بذلك إلا بعد البحث الصحيح لمعرفة الرأى الحق العلمى اليقينى فى مثل هذه الأمور " منبر الإسلام مجلد ١ ٢ عدد جمادى الآخر ١٣٨٣ ص آ ١، ١٧ "