[البيعة على الإسلام والهجرة]
المفتي
عطية صقر.
مايو ١٩٩٧
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
جاء فى الأحاديث أن أعرابيا نقض البيعة مع الرسول صلى الله عليه وسلم على الإسلام والهجرة، فهل يعتبر ذلك ردة، وإذا كان ردة فلماذا لم يقم عليه الرسول صلى الله عليه وسلم الحد؟
الجواب
روى البخارى ومسلم عن جابر بن عبد الله أن أعرابيا بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصاب الأعرابى وعْكٌ بالمدينة، فقال: يا رسول الله أقلْنى بيعتى فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتكرر الطلب والرفض ثلاث مرات، فخرج الأعرابى فقال الرسول صلى الله عليه وسلم "إنما المدينة كالكير، تنفى خَبئَها، وينْصعُ طيبها"والطيب بكسر الطاء هو الرائحة الحسنة، وبفتحها وتشديد الياء هو الطاهر.
لم تصرح رواية مسلم بما بايع الأعرابى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصرحت رواية البخارى بأنه بايعه على الإسلام، وجاء فى شرح النووى على صحيح مسلم أن المبايعة كانت على الإسلام والهجرة، وجاء فى فتح البارى لابن حجر أن طلب الإقالة من الأعرابى هل كان عن الإسلام والهجرة أم عن الهجرة فقط؟ من المعلوم أن الهجرة إلى المدينة كانت واجبة قبل فتح مكة فى السنة الثامنة من الهجرة، ثم صارت بعد الفتح غير واجبة كما صح فى حديث البخارى ومسلم "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا" فتركها قبل الفتح معصية، وبعد فتحها ليس بمعصية.
ومن المعلوم أيضا أن جو المدينة لم يلائم كثيرا من الوافدين عليها، وشكا بعض المهاجرين ذلك إلى النبى صلى الله عليه وسلم ومنهم أبو بكر وبلال رضى الله عنهما، فدعا الرسول ربه أن يبارك فى المدينة كما بارك فى مكة أو أشد، كما رواه البخارى، ورغب في الصبر على شدتها وعدم مفارقتها.
والأعرابى الساكن فى البادية لما وفد إلى النبى بالمدينة وأسلم لم يعجبه جوها فطلب من الرسول إقالته فلم يُقِلْه، فخرج الأعرابى من المدينة، واختلف العلماء فيما طلب الإقالة منه: هل هو الإسلام والهجرة، أو الهجرة فقط؟ رجح جماعة أنه الهجرة فقط، وذلك بعد سقوط فرضيتها بفتح مكة، لكن قيل: إذا كانت الهجرة سقطت فرضيتها فلماذا لم يأذن له الرسول بترك المدينة؟ أجيب بأن الرسول يحب لمن سكنها ألا يتركها حتى لو كان تركها مباحا، والرجل حين خرج منها بعد طلب الإقالة لم يرتكب إثما، وإنما ارتكب خلاف الأولى، ولا عقوبة فى ذلك لا فى الآخرة ولا فى الدنيا.
وإذا كان طلبه الإقالة من الهجرة قبل فتح مكة كان تركه للمدينة معصية، والرسول لا يسمح بارتكاب المعصية حتى لو كانت صغيرة، وهذه المعصية لا عقوبة عليها فى الدنيا مثل كثير من المعاصى كعقوق الوالدين والغيبة والنميمة وإن كانت لها عقوبة أخروية.
وقال جماعة: إن الأعرابى طلب الإقالة من الإسلام والهجرة، وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد رفض الإقالة من الهجرة على الوجه المبين من قبل، فإنه يرفض الإقالة من الإسلام، لأنها ردة.
وهنا يقال: لماذا لم يعاقبه الرسول على الردة؟ والجواب أن الأعرابى إذا خالف بالخروج من المدينة كما نص الحديث فإن رفضه للإسلام غير معلوم، لأنه لا تلازم بين الإثنين، وبخاصة أنه بيَّن فى طلبه عدم ملاءمة جو المدينة له فقط، فيجوز أن يخرج من المدينة إلى البادية طلبا للصحة مع بقائه على الإسلام بعقيدته وشريعته.
ورفض الإسلام الذى يكون ردة أمر متعلق بالقلب والباطن، لا يعلم إلا بقول يصرح فيه بالرفض والإنكار لأية عقيدة من عقائده، أو بفعل يدل على ذلك كسجود لصنم أو إهانة المصحف بإلقائه مثلا فى القاذورات، وبدون هذه الأمارات لا تعلم الردة، كالمنافقين الذين تكفر قلوبهم ولا يصدر منهم قول أو فعل يصرح بما فى قلوبهم، فكانوا يعاملون بظاهرهم معاملة المؤمنين.
والأعرابى لم يتبين للرسول منه ما يفيد رفضه للإسلام حتى يعامله معاملة المرتد، ومجرد خروجه من المدينة ونقض البيعة على الهجرة على فرض أنه من المعاصى الكبيرة لا يلزم منه الكفر، وحديث أبى ذر فى ذلك معروف، فإن المؤمن مصيره الجنة ولا يخلد فى النار كالكافرين حتى لو سرق وزنا "رغم أنف أبى ذر".
وما جاء من الأحاديث التى تنفى الإيمان عن مرتكب الكبائر مثل "لا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن. . . " قال فيه العلماء: إن نفى الإيمان إما أن يكون نفيا لكماله، وإما أن يكون نفيا لأصله إذا اعتقد أن الزنا حلال، فإن اعتقاد حِلَّ ما حرمه الله تحريما قاطعا كفر، ولم يُعْلَم أن الأعرابى اعتقد أن ترك المدينة حلال على فرض أنه حرام، ومن هنا لم يقم الرسول عليه حد الردة، ولا يصح أن تكون هذه الواقعة مُتَكأً لمن يرفضون أن الردة يعاقب عليها بالقتل، ويَدْعُون إلى الحرية فى اختيار أى دين، والتحول من دين إلى آخر، أو عدم التقيد بأى دين، تحقيقا للحرية المكفولة لكل إنسان. متجاهلين قول الله تعالى {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم فى الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خاسرون} البقرة: ٢١٧، وقوله {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو فى الآخرة من الخاسرين} آل عمران: ٨٥، وقول النبى صلى الله عليه وسلم "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزانى والقاتل والتارك لدينه المفارق للجماعة" رواه البخارى ومسلم، وقوله "من بدل دينه فاقتلوه " رواه البخارى