للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[خطة دينية لمواجهة الكوارث]

المفتي

عطية صقر.

مايو ١٩٩٧

المبادئ

القرآن والسنة

السؤال

هل هناك خطة دينية لمواجهة الكوارث؟

الجواب

١ - الإنسان فى حياته يتقلب بين الخير والشر، فيما ينفعه وما يضره، وما يسره وما يحزنه، وذلك بحكم تكوينه الطبيعى، وبما أراد الله له من الخلافة فى الأرض التى خلق منها، قال تعالى: {لقد خلقنا الإنسان فى كبد} البلد: ٤.

وقال تعالى {يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه} الانشقاق: ٦. أما الحياة الخالية من الآلام فهى حياة أهل الجنة، لا يمسهم فيها نصب ولا حزن ولا غل ولا لغو ولا تأثيم كما ورد فى القرآن الكريم.

٢ - والله سبحانه هو خالق الكون كله ومالك أمره، يحبى ويميت ويعطى ويمنع، يفعل ما يشاء كما يشاء: {لا يُسأل عما يفعل} الأنبياء: ٢٣.

ومع ذلك فهو سبحانه فى كل أفعاله حكيم يضع الشىء فى موضعه المناسب، وقد وصف نفسه بالحكمة والخبرة والعلم والإرادة فى نصوص كثيرة، وهذه الحكمة موجودة فى أمره التكوينى وأمره التشريعى لمن يعيشون فى هذه الدنيا قال تعالى للملائكة فى حكمة خلق آدم: {إنى أعلم ما لا تعلمون} البقرة: ٣٠.

وقال فى فرض الجهاد على المسلمين: {كتب عليكم القتال وهو كُره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون} البقرة: ٢١٦.

٣- وإذا كان الله سبحانه قد سخر لبنى آدم ما فى السموات وما فى الأرض، وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة، فإن فى بعض المسخرات من القوى والإمكانات ضررا عليهم فى ظاهر الأمر، كالزلازل والبراكين والعواصف والسيول والأوبئة المجتاحة، لكن لها حكمة قد تخفى على بعض الناس، ضرورة أن الله حكيم فى كل ما. يصدر عنه، منزَه عن العبث فى أى شىء.

كما أن الهدى الإلهى الذى أرسل به الرسل هو لإرشاد الناس إلى الخير كفا قال سبحانه: {فإما يأتينكم منى هدى فمن اتبع هداى لا يضل ولا يشقى} طه: ١٢٣.

لكن فى بعض هذا الهدى ما فيه مشقة فى ظاهره، وهو فى حقيقة الأمر لخير الإنسان وسعادته فى دنياه وآخرته، كفرض الجهاد الذى قال فى حكمته:

{ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض} البقرة: ٢٥١.

وكأمر الله للخضر عليه السلام بخرق السفينة ليصرف عنها المك الطاغية ويخلصها لأهلها المساكين، وكأمره له بقتل الغلام حتى لا يكفر بسببه أبواه، وذلك مسطور فى الكهف: ٧١- ٨١.

٤ - وبعيدا عن الحكمة فى التشريع هل هناك حكمة فى الأمور الكونية أمثال الزلازل والبراكين؟ - هناك حكم كثيرة على رأسها لفت نظر الإنسان الذى خلقه الله بيده من طين، ولم يكن من قبل شيئا مذكورا، وأسبغ عليه النعمة، وسخر له المخلوقات - لفت نظره إلى الإيمان بأن هناك قوة أكبر من قوته، وسلطانا أعلى من سلطانه، وذلك حتى لا يكفر بوجود الله، وحتى لا يعصيه إن كان مؤمنا بوجوده.

حكم غير عامة وإلى جانب هذه الحكمة العامة توجد حكم أخرى منها ما يأتى:

(أ) قد تكون الزلازل والصواعق والأعاصير وغيرها وسيلة انتقام لمن كفر بالله وجحد نعمته، كالطوفان لقوم نوح، والريح الصرصر لقوم هود، والصاعقة لقوم صالح، والصيحة لقوم شعيب، والرجم لقوم لوط، والغرق لفرعون وقومه، والخسف لقارون، قال تعالى: {فكلاًّ أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} العنكبوت: ٤٠.

وهى بهذه الصورة عبرة وعظة لغيرهم حتى لا يتورطوا فيما تورط فيه هؤلاء، قال تعالى: {لقد كان فى قصصهم عبرة لأولى الألبب} يوسف: ١١.

وقال: {وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك فى هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين} هود: ١٢٠.

(ب) قد تكون هذه الكوارث امتحانا يتميز به المؤمن الصادق من غير الصادق. قال تعالى: {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم} محمد: ٣١.

وقال فى شأن غزوة أحد: {إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين. وليمحص الله الذين اَمنوا ويمحق الكافرين} آل عمران: ١٤٠، ١٤١.

وهو سبحانه كما يمتحن بالشر يمتحن بالخير: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون} الأنبياء: ٣٥، قال تعالى على لسان سيدنا سليمان وقد أعطاه ما أعطاه: {هذا من فضل ربى ليبلونى أأشكر أم اكفر} النمل: ٤٠.

(ج) قد تكون هذه الكوارث وسيلة من وسائل تطهير المؤمنين الصابرين الصادقين من الذنوب ومضاعفة ثوابهم، قال تعالى: {ولنبلونكم بشىء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون. أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون} البقرة: ١٥٥، ١٥٧، وقال النبى صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخارى ومسلم " ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم -حتى الشوكة يشاكها -إلا كفَّر الله بها من خطاياه " والوصب هو المرض.

وقد تكون هناك حكم أخرى يعرفها علماء الأخلاق، كما يعرفها العلماء المختصون المعنيون بالدراسات الطبيعية والجغرافية وما يعرفونه من قوانين التوازن وغيرها.

وعجائب المخلوقات كثيرة، وعلمنا بأسرار الكون قليل كما قال سبحانه:

{وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} الإسراء: ٨٥.

ولذلك كرر الله الأمر بدوام البحث والنظر فى ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شىء. {وفى الأرض آيات للموقنين. وفى أنفسكم أفلا تبصرون} الذاريات: ٢٠ - ٢١.

٥ -ليكن معلوما أن هناك كوارث هى من صنع الله وحده لا اختيار للإنسان فيها، كالأمثلة التى تقدمت، وهناك كوارث تتدخل فيها قدرة الإنسان واختياره، كالحروب والحرائق وتلوث البيئة، وحوادث الطرق والمواصلات، فما هو موقف الإنسان من كل هذه الكوارث؟ إن لكل من النوعين تعاملا خاصًّا ينبغى إفراده بالحديث وهذا التعامل له طرفان، طرف تربوى وطرف تشريعى، ولا يستغنى أحدهما عن الأخر، فالتربية توضح الطريق للتشريع، وفى الوقت نفسه تساعد على تنفيذه، والتشريع ينظم التربية وييسرها للفهم وبالتالى للتطبيق، وسيكون الكلام على الطرفين فى نسق واحد، دون اهتمام بالفصل بينهما.

وسنجعل للنوع الأول من الكوارث عنوان " الكوارث الطبيعية " نسبة لمحلها لا لفاعلها، وللنوع الثانى عنوان "الكوارث البشرية " وذلك لوضوح تسببهم فيها.

أولا: فى الكوارث الطبيعية:

كل الكوارث لها إجراءان، إجراء وقائى قبل وقوعها، وإجراء علاجى بعد وقوعها، وبخصوص الكوارث الطبيعية التى هى من صنع الله وحده لا يظهر للإجراء الوقائى أثر، اللهم إلا فى مثل الدراسات والمشاهدات التى تعرف بها الأماكن التى يكثر فيها التعرض لهذه الكوارث فيحتاط بالبعد عنها، أو بالتنبه لوقوعها إن أمكن، أو بمثل الاكتفاء فى المنازل بما لا يعظم الخطر منه عند هدمه، أو بمثل إقامة السدود الواقية من خطر السيول ونحو ذلك.

أما الإجراء العلاجى بعد وقوعها، فمنه ما يتصل بمن أصيب بها وما يتصل بمن لم يصب بها، فالذى أصيب بفقد عزيز عليه من إنسان أو حيوان أو زرع أو مال أو غير ذلك، يجب عليه أمور أهمها:

١-الرضا بقضاء الله وعدم الجزع والسخط على ما وقع، فمن أصول الإيمان كما صح فى الحديث " وأن تؤمن بالقدر خيره وشر حلوه ومره " قال تعالى: {قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون} التوبة: ٥١.

٢ -الأمل وعدم اليأس من رحمة الله -فى تعويض ما فقد مهما كانت فداحة هذا الخطب، والله يقول: {إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون} يوسف: ٨٧، ويقول: {وأيوب إذ نادى ربه أنى مسنى الضر وأنت أرحم الراحمين. فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر واتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين} الأنبياء: ٨٣، ٨٤. ويقول: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا أن نصر الله قريب} البقرة: ٢١٤.

إلى غير ذلك من النصوص فى القرآن والسنة التى تغرس الأمل فى النفوس وتقويه، وتنهى عن اليأس وتنفر منه.

٣- التحرك العملى والسعى بدافع هذا الأمل إلى ما يعوض به ما فقد منه، وعدم اللجوء إلى الاستجداء أو انتظار المعونات، فلا يجوز ذلك إلا عندما تضيق السبل وتغلق كل منافذ الاعتماد على النفس، لأن الاستجداء ونحوه إجراء مؤقت لا يطول ولا يدوم، وقد وجه الرسول رجلا تعرض للسؤال أن يعمل بجهده هو، حيث اشترى له فأسا يكسب بها ليعول أهله ونفسه فنجح وكفى نفسه ذل السؤال.

أما الإجراء الواجب على من لم يصب بمثل هذه الكوارث فيتمثل فى أمور منها:

١-أن يحس الناس بالمأساة التى وقعت لمن يشاركهم فى الإنسانية، وأن يتقدموا بعمل ما يمكنهم لتخفيف المأساة، ذلك أن الدين -إلى جانب الفطرة السليمة -يأبى أن يكون الإنسان - فضلا عن المؤمن - قاسى القلب جامد العاطفة، لا يعرف إلا نفسًه ولا تهمه إلا مصلحته، ففى الحديث "من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم " رواه الحاكم والطبرانى بسند يقبل فى فضائل الأعمال. ويوضح الدافع إلى هذا التحرك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: " مثل المؤمنين فى تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى " رواه البخارى ومسلم.

٢ - أن يقوم بالحد الأدنى فى المشاركة الوجدانية فيعزى المصاب ويسليه ولو بكلمات تخفف وقع المصيبة على نفسه، وأن يدعو القادرين على مساعدته إن لم يستطع هو فالدال على الخير كفاعله، والله يذم قساة القلوب الذين ينسون المساءلة يوم القيامة فيقول: {أرأيت الذى يكذِّب بالدين. فذلك الذى يدع اليتيم. ولا يحض على طعام المسكين} الماعون: ١ -٣.

٣- أن يقدم له مواساة عينية بقدر المستطاع، وقد حثت نصوص القرآن والسنة على هذه المواساة، يكفى منها قول النبى صلى الله عليه وسلم: " من نفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، والله فى عون العبد ما كان العبد فى عون أخيه " رواه البخارى ومسلم ويحذر أشد التحذير من البخل بهذه المعونة فيقول "ليس منا من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم " رواه الطبرانى بإسناد حسن.

٤ -أن يقوم بواجب المواساة والمعونة كل قادر على ذلك، على مستوى الأفراد والجماعات والمسئولين فى الدولة، بل تشارك فى ذلك الدول الأخرى، وبخاصة إذا كان الخطب جسيما لا يواجه إلا بجهد جماعى على نطاق واسع، والله سبحانه وتعالى يقول: {وتعاونوا على البر والتقوى} المائدة: ٣.

وفى الحديث " يدُ الله مع الجماعة " رواه الترمذى وحسنه.

وقد روى مسلم فى صحيحه أن جماعة بؤساء من مُضر وفدوا على النبى صلى الله عليه وسلم فتغير وجهه لما رأى بهم من الفاقة، فخطب فى الناس وحثهم على معونتهم، فجمعوا شيئا كثيرا سر به النبى صلى الله عليه وسلم لما رأى من مسارعتهم إلى الخير، وقال: " من سن فى الإسلام سنة حسنة فله أجر، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ".

وقد جعل الإسلام فى بيت المال نصيبا لأمثال هؤلاء المحتاجين، وخوَّل لولى الأمر أن يفرض ما يواجه به هذه الكوارث إن ضاقت الموارد، بل له أن يفرض التقشف عن الكماليات لمواجهة الضروريات، كما حرَّم عمر رضى الله عنه على نفسه أكل اللحم عام المجاعة، وعاقب من يقبلون عليه من أهل اليسار ليشاركوا الفقراء محنتهم، ويساعدوهم بما يفيض عن حاجتهم وفى ظل المعنى الإنسانى وواجب الراعى نحو الرعية تتوارى المعانى الأخرى التى تفرق بين الجماعة كعامل الدين، فالله يقول فى مساعدة أسماء بنت أبى بكر لأمها المشركة حين وفدت عليها {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين} الممتحنة: ٨.

ورأى عمر يهوديا كبيرا يتسول ففرض له فى بيت المال ما يكفيه قائلا:

ظلمناك إذ أخذنا منك فى شبيبتك، وضيعناك فى شيبتك.

وفى الكوارث الفادحة التى تتقدم فيها الجماعات والدول بالمعونة، انطلاقا من المعانى الإنسانية أو تطبيقا لاتفاقات دولية ونحوها، يتقدم كل بما يمكن من أنواع المساعدة مع الاهتمام بما هو أشد احتياجا، من طعام أوكساء، أو دواء ونحو ذلك.

ثانيا: فى الكوارث البشرية:

هناك إجراءان لمواجهة الكوارث التى يتدخل فيها الإنسان، أحدهما وقائى، والثانى علاجى.

ففى الإجراء الوقائى:

هناك تحذير عام من التورط فيما يعود على الإنسان بالضرر، سواء أكان هذا الضرر خاصا به، أو متعديا إلى غيره، فالله تعالى يقول: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} البقرة: ١٩٥، ويقول {يا أيها الذين اَمنوا خذوا حذركم} النساء: ٧١، وفى الحديث " لا ضرر ولا ضرار " رواه ابن ماجه.

١ -ففى مجال الحروب دعا الإسلام إلى السلم والأمان فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا ادخلوا فى السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين} البقرة: ٢٠٨ وحبب فى الصلح قبل أن تقوم الحرب فقال: {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله} الأنفال: ٦١.

وأكد على الموافقة على الصلح حتى لو كانت نية الطرف الاَخر سيئة، ولكن يجب الحذر والاحتياط لمواجهة احتمال الغدر والخيانة، فقال: {وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذى أيدك بنصره وبالمؤمنين} الأنفال: ٦٢، مع قوله: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة} الأنفال: ٦٠.

ومنع الإسلام البدء بالحرب، وجعلها لرد العدوان، مع الاقتصار على الحد الأدنى من الخسائر الكافية للرد، فقال تعالى: {وقاتلوا فى سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} البقرة: ١٩٥، ومن أجل الحيلولة دون وقوع الحرب شرع الإسلام إنذار من تبدر منهم بوادر الغدر فقال تعالى: {وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين} الأنفال: ٥٨.

وشرعت المرابطة فى الثغور لحماية الحدود، مع بث العيون والجواسيس لمعرفة أحوال العدو، والتوصية فى الحرب بعدم قتل من لم يشترك فيها من أمثال النساء والأطفال والشيوخ الكبار، وعدم تخريب العامر، أو القتال بما يعم به التدمير من الأسلحة المتنوعة- والتطور الحديث تنفس عن كثير منها -وحكمة التشريع لهذه الأخلاقيات والآداب الحربية اعتبار أن الحرب ضرورة تقدر بقدرها، لا يرتكب فيها إلا ما يتحقق به النصر، لأن هذا هو ما يحب أن يعامل به من يعتدى عليه، والأيام دول، والواجب الدينى يقتضى أن يحب الإنسان لغيره ما يحبه لنفسه كما ثبت فى الحديث.

٢-وفى مجال الحريق كان من هدى الإسلام فى الوقاية منه الأمر بعدم ترك المصباح مضاء فى البيت عند النوم، حتى لا يعبث به فأر أو غيره فينشأ عن ذلك حريق، وسيأتى النص بعد. وهو صورة لما ينبغى اتخاذه فى أيامنا هذه من الاطمئنان على التوصيلات الكهربائية فى البيوت والمصانع والمؤسسات المختلفة وفى حديث البخارى ومسلم " إن هذه النار عدو لكم فإن نمتم فأطفئوها ".

٣-وفى مجال تلوث البيئة وما ينتج عنه من أمراض نرى للإسلام باعا طويلا لا يمكن فى هذا الحيز الضيق أن نورده كله أو أكثره، ولكن نكتفى بنماذج منه.

(أ) فالدين حث على النظافة فى كل شىء مادى ومعنوى، دينى ودنيوى، وجعلها شرطا لصحة أداء العبادات التى يتقرب بها إلى الله، كالوضوء الذى تغسل به الأعضاء المعرضة للتلوث، مع المبالغة فى تنظيف مداخل الأكل والشرب والتنفس، بالمضمضة والسواك، والاستنشاق والاستنثار أى إخراج ما فى الأنف مما يلوث مجرى النفس، وكالغسل الذى فرضه لموجبات معينة تحصل به النظافة ويجدد نشاط الجسم، وجعله سنة عند الاجتماعات كصلاة الجمعة والعيدين. ومواطن متعددة فى الحج الذى تكثر فيه الرخام، مع ما يتبع هذه الطهارة من الزينة والرائحة الطيبة المسموح بها.

ب -وفى المقابل نهى عن كل ما يتنافى مع النظافة، فحرم البول والغائط فى موارد المياه وقارعة الطريق ومواضع الظل، أى الأماكن التى يكثر تردد الناس عليها لحاجتهم إليها، وقال فى ذلك الحديث الذى رواه مسلم "اتقوا اللاعنين "قالوا: وما اللاعنان يا رسول الله؟ قال: " الذى يتخلى فى طرق الناس أوفى ظلهم " واللاعنان أى الأمران اللذان يجلبان اللعن والشتم، والتخلى هو التبول والتبرز. وجاء فى رواية أبى داود وأحمد أن الملاعن ثلاثة، فزادت على رواية مسلم موارد المياه ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبال فى الماء الراكد كما رواه مسلم، بل نهى أن يبال فى الماء الجارى كما رواه الطبرانى بإسناد جيد. أين من هذا مخلفات المصانع والبيوت؟ ونهى عن البصق فى الأماكن العامة التى يكثر فيها اجتماع الناس، ومنها المساجد، وقد كانت فى أيام الرسول تفرش بالحصى والرمل. ففى حديث رواه البخارى ومسلم "البصاق فى المسجد خطيئة وكفارتها دفنها ".

كما نهى عن مضايقة الناس بالروائح الكريهة، وبخاصة فى أماكن الاجتماعات، ففى الحديث الذى رواه البخارى ومسلم " من أكل ثوما أو بصلا فليعتزلنا-أو فليعتزل مساجدنا- وليقعد فى بيته ".

وجاء فى بعض الروايات النهى عن الكراث والفجل، ويقاس على ذلك كل ذى ريح كريه ومنه التدخين. وقال عمر بن الخطاب فى خطبة الجمعة، كما رواه مسلم وغيره: عن البصل والثوم: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد ريحهما من الرجل فى المسجد أمر به فأخرج إلى البقيع. وهو مقبرة المدينة.

ج - وفى مجال الوقاية من الأمراض - إلى جانب ما ذكر-أمر الإسلام بالاعتدال فى الأكل والشرب، فقال تعالى: {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} الأعراف: ٣١.

وقال صلى الله عليه وسلم: " ما ملا ابن اَدم وعاء شرا من بطنه فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه ".. . رواه الترمذى وقال: حسن.

وحرم الإسلام أطعمة ومشروبات ضارة، كالميتة والدم ولحم الخنزير، والخمر وكل مسكر ومفتر والنصوص فى ذلك ثابتة فى القرآن والسنة، الآية ٣ من سورة المائدة، والآية: ٩٠ من السورة نفسها.

وحذر من التعرض للعدوى فقال صلى الله عليه وسلم: " فر من المجذوم فرارك من الأسد " رواه البخارى. وقال: " إذا سمعتم الطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض أنتم فيها فلا تخرجوا منها " رواه البخارى ومسلم.

وفى وقاية الطعام والشراب من التلوث -إلى جانب استحباب غسل الأيدى قبل تناول الطعام وبعده - ورد الحديث الذى رواه مسلم " غطوا الإناء، وأوكئوا السقاء - اربطوا فم القربة - وأغلقوا الأبواب، وأطفئوا السراج، فإن الشيطان لا يحل سقاء، ولا يفتح بابا ولا يكشف إناء، فإن لم يجد أحدكم إلا أن يعرض على إنائه عودا ويذكر اسم الله فليفعل، فإن الفويسقة-الفأرة- تضرم على أهل البيت بيتهم " وذلك بأن تجر الفتيلة إلى المتاع فيحرق وقد يراد بالشيطان الحشرات.

د - وفى مجال الوقاية من أخطار الطرق والمواصلات، حذر الإسلام من أى شىء يعوق حركة المرور أو يؤذى المارة أيا كان هذا الإيذاء-ومنه التبول والتبرز كما سبق فى حديث الملاعن، يقول النبى صلى الله عليه وسلم: " من اَذى المسلمين فى طرقهم وجبت عليه لعنتهم " رواه الطبرانى بإسناد حسن.

وفى الحديث الذى رواه البخارى ومسلم "وإماطة الأذى عن الطريق صدقة ".

وفى حديث رواه مسلم عن النبى صلى الله عليه وسلم: " لقد رأيت رجلا يتقلب فى الجنة-أى يتنعم بما فيها-فى شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذى المسلمين ".

وفى هذا الإطار أثر عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه قال: والله لو علمت. أن دابة عثرت فى أرض العراق لوجدتنى مسئولا عنها أمام الله لِمَ لم أمهد لها الطريق.

ومن أجل سلامة المارة نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن التزاحم والسرعة فى الأماكن الضيقة، وأوقات الذروة-كما يقال بلغة العصر-وذلك عند الإفاضة من عرفات وعند تقبيل الحجر الأسود، فقد روى أحمد والطبرانى والبيهقى بإسناد حسن أن الرسول عندما فاض من عرفة سمع وراءه زجرا شديدا وضربا وصوتا للإبل فأشار بسوطه وقال: "أيها الناس عليكم بالسكينة، فإن البر ليس بالإيضاع " والإيضاغ هو الإسراع. وروى الشافعى فى سننه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لعمر رضى الله عنه:

"يا أبا حفص، إنك رجل قوى، فلا تزاحم الناس على الركن - وهو الذى فيه الحجر الأسود - فإنك تؤذى الضعيف ".

هـ -ومن الوقاية من الأضرار عامة جاء الأمر بقتل الحشرات والحيوانات المؤذية، وأمر الرسول بحماية الأطفال من الخروج ليلا إلى الطرقات حيث تسبح الحشرات المؤذية، كما أمر عند خوض المعركة استعمال الأدوات الواقية، كالدرع والخوذة، ومن ذلك توفير الأمن من للحريق فى المصانع وغيرها بإعداد أدوات الإطفاء.

هذه بعض الصور التى جاء بها الدين من أجل الوقاية من الأخطار التى يتسبب فيها الإنسان.

الإجراء العلاجى:

وإذا نشبت الحرب أو شب الحريق أو حدث التلوث، كان العلاج فى مجالين أو فى حالتين، الأولى حالة وقوع الخطر، والثانية بعد وقوعه وانتهائه.

إن الحالة الثانية هى نتائج وآثار، وعلاجها يكون على النحو الذى تعالج به الكوارث الطبيعية، وقد تقدم ذلك.

أما فى الحالة الأولى فيعالج الخطر بالتدخل السريع لإيقاف الحرب وإخماد النار ومنع التلوث، فالسكوت رضا، والرضا بالخطر مشاركة فيه وفى تبعاته، وقد مر حديث "من لم يهتم بأمر المسلمينِ فليس منهم "، كما أن السكوت معاونة على تمادى الضرر ومدرجة إلى أن يصاب بها غير من باشرها، ومنهم الساكت السلبى الذى لا يبالى، والله يقول: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} الأنفال: ٢٥.

والحديث يشرح خطر السكوت على المنكر بوجه عام فيقول:

"مثل القائم فى حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، وكان الذين فى أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا فى نصيبنا خرقا-نستقى منه - ولم نؤذ من فوقنا.. فلو تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا " رواه البخارى.

ومعنى " القائم فى حدود الله " المنكر لها القائم فى إزالتها ودفعها، والمراد بالحدود ما نهى الله عنه. ومعنى " استهموا " اقترعوا.

ويتأكد التدخل إذا طلبت النجدة، فمن حق المسلم على المسلم كما جاء فى الحديث " وإن استعان بك أعنته " أو " وإذا استنصرك فانصره " وفى الحديث " انصر أخاك ظالما أو مظلوما " قالوا: يا رسول الله ننصره مظلوما فكيف ننصره ظالما؟ قال: " ترده عن ظلمه فذلك نصر له " رواه البخارى، وفى التحذير من التقصير جاء قول النبى صلى الله عليه وسلم: " ما من مسلم يخذل امرأ مسلما فى موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه إلا خذله الله فى موطن يحب فيه نصرته " رواه أبو داود.

وفى الحرب بالذات أمر الإسلام بالصلح بين المتخاصمين: {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم} الحجرات: ١٠.

ومن قبلها جاء قول الله تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التى تبغى حتى تفىء إلى أمر الله فإن فآءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين} الحجرات: ٩.

والتدخل لمواجهة أمثال هذه الكوارث واجب على كل فرد وجماعة ودولة، ومن الخطأ كل الخطأ أن يتملص أحد من المسئولية ويلقيها على غيره، ويتأكد التدخل السريع فى هذه الحالات، كما تتأكد التضحية والإيثار، مع الإخلاص فى هذا التدخل والشعور بأنه يقدم خدمة لنفسه كما يؤديها لغيره، فالنتيجة الضارة يعانى منها الجميع بطريق مباشر أو غير مباشر.

وبعد:

فهذه بعض التصورات للخطة الدينية لمواجهة الكوارث، بينا فيها موقف الدين منها بقدر يسمح ببيان أهمية الروح الدينية فى معالجة الأحداث فى كل القطاعات، مؤكدين على وجوب الاعتماد على الروح الجماعية، التى يكون العمل على ضوئها مضاعف الأجر والثواب، وعلى الإيمان بأن قانون الأسبابب والمسببات لا بد أن يراعى فى كل الأنشطة وإن كان كل شىء يتم بقضاء الله وقدره " اعقلها وتوكل ".

والواجب هو غرس هذه المعانى فى النفوس بكل الوسائل الممكنة للتعليم والتربية، التى لا تقتصر على جهة معينة، بل يشترك فيها كل من يملك أى قدر من القدرة على نشرها وعلى التمرين على تطبيقها، مع الأخذ فى الاعتبار أهمية البيت فى هذا المجال، ففيه تغرس القيم وتطبق بشكل أقوى إن كان المشرفون عليه على مستوى من التعليم والتدين يتناسب مع خطورة تنشئة الأجيال وإعدادها للمستقل، كما لا يخفى دور المدرسة ومؤسسات التوجيه وبيوت العبادة فى هذا الواجب، والمهم أن تكون كلها متعاونة تسير فى خط واحد، لا يتخلف أحدها ولا يسير فى اتجاه مضاد، وإذا صدقت النية وخلص العمل هان الأمر وتحقق الغرض

<<  <  ج: ص:  >  >>