[الحيل المشروعة وغيرها]
المفتي
جاد الحق على جاد الحق.
محرم ١٤٠٢ هجرية - ١٤ نوفمبر ١٩٨١ م
المبادئ
١ - الحيل المشروعة هى ما لا تهدم أصلا شرعيا ولا تتعارض مع مصلحة شرعية.
٢ - مبنى الشريعة على مصالح العباد فى العالج والآجل.
٣ - قبض الشخص مبلغا لشراء شىء ثم استقطاعه منه مبلغ باعتبار أنه حقه ورده الباقى لصاحبه من الحيل غير المشروعة
السؤال
بالطلب المقيد وبه أن السائل يشتغل فى شركة قطاع خاص، وقد اتفق معه صاحب العمل على أجر إضافى بواقع ٥٠ من الأجر الأصلى إذا مكث فى العمل من الساعة السابعة صباحا حتى الساعة السادسة مساء، وأنه قبل ونفذ العمل فى هذه المدة طوال أيام الشهر، وأنه فى نهاية الشهر صرف له صاحب العمل المرتب فقط، وامتنع عن صرف ال- ٥٠ المتفق عليها أجرا إضافيا.
وأن السائل بحكم وضعه فى العمل قبض مبلغ ١٣٠ جنيها لشراء مستلزمات للورشة، مع أن الورشة فى غير حاجة إلى شراء هذه المستلزمات وبعد أن قبض هذا المبلغ فى يده ذهب إلى الإدارة المالية بالشركة لحساب قيمة الجر الإضافى وهو ال- ٥٠ فبلغ ٩٥ جنيها أخذها من المبلغ الباقى وهو ٣٥ جنيها - إعلاما لصاحب العمل بأنه قد فعل ذلك لهذا الغرض.
والسؤال ما رأى الدين هل طريقة أخذه للمبلغ والحصول عليه حرام أو حلال
الجواب
فى لسان العرب لابن منظور أن الحيلة - بالكسر - الاسم من الاحتيال، ويقال لا حيلة له ولا احتيال ولا محالة ولا محيلة، والاحتيال مطالبتك الشىء بالحيل.
وقال الشاطبى فى كتاب الموافقات فى أصول الشريعة التحيل بوجه سائغ، مشروع فى الظاهر، أو غير سائغ على إسقاط حكم أو قبله إلى حكم آخر، بحيث لا يسقط أو لا ينقلب إلا مع تلك الواسطة، فتفعل، ليتوصل بها إلى الغرض المقصود، مع العلم بكونها لم تشرع له، فكان التحيل مشتملا على أمرين أحدهما قلب أحكام الأفعال بعضها إلى بعض فى ظاهر الأمر.
والآخر جعل الأفعال المقوصد بها فى الشرع معان، وسائل إلى قلب تلك الأحكام.
ثم قال الحيل فى الدين بالمعنى المذكور غير مشورعة فى الجملة والدليل على ذلك ما لا ينحصر من الكتاب والسنة، لكن فى خصوصات يفهم من مجموعاها منعها والنهى عنها على القطع.
وساق الشاطبى الأدلة على هذه القاعدة التى قررها إلى أن قال لما ثبت أن الأحكام شرعت لمصالح العباد كانت الأعمال معتبرة بذلك، لن مقصود الشارع فيها مما يتبين، فإذا كان الأمر فى ظاهره وباطنه على أصل المشروعية فلا إشكال، وإن كان الظاهر موافقا والمصلحة مخالفة فالفعل غير صحيح وغير مشروع، لأن الأعمال الشرعية ليست مقصودة لأنفسها، وإنما قصد بها أمور أخرى هى معانيها، وهى المصالح التى شرعت لأجلها، فالذى عمل من ذلك على غير هذا الوضع فليس على وضع المشروعات (ج - ٢ ص ٣٧٨، ٣٨٠ حتى ٣٨٥ وما بعدها تحقيق المرحوم الشيخ عبد الله دراز طبع المكتبة التجارية) وقد أقام الشاطبى حكمه هذا على الاحتيال والحيلة على جملة من الأصول الشرعية الكلية، والقواعد القطعية موجزها.
أولا الاحيتال ومخالفة قصد الشارع ذلك أن المحتال قد قصد إلى ما ينافى قصد الشارع فبطل عمله لأن قصد المكلف ينبغى أن يكون موافقا لقصد الشارع، ومن ابتغى غير هذا فأولئك هم العادون، لأنه ناقض الشريعة وكل من ناقضها كان عمله النقيض باطلا.
وقد أقام الشاطبى الأدلة على أن مخالفة قصد الشارع مبطلة للعمل.
باعتبار أن هذه المقاصد مشروعة للامتثال (الموافقات ج - ٢ ص ٢٣١ وما بعدها) ثانيا الاحتيال وقاعدة اعتبال المآل فقد بين الشاطبى أن تقديم عمل ظاهر الجواز لإبطال حكم شرعى أو تحويله فى الظاهر إلى حكم آخر، كان مآل العمل خرم قواعد الشريعة فى الواقع (المرجع السابق ج - ٤ ص ٢٠١) إذ أن هذا العمل مناقض لقاعدة المصالح مع أنها معتبرة فى الأحكام وهو أيضا مضاد لقصد الشارع من جهة أن السبب لما انعقد سببا وحصل فى الوجود صار مقتضيا شرعا لمسببه لا لغيرة وما كان مضادا لقصد الشارع كان باطلا (ذات المرجع ج - ٢ ص ٢٧٨) ثالثا - فى الاحتيال انعدام الإرادة فى العقد المتحيل به ذلك أن ركن العقد هو الرضا، وإذا كانت الإرادة أمرا خفيا لا يطلع عليه أحد جعل الشارع مظنة الرضا، وهو صيغة العقد قائمة مقام الرضا، وإذا قصد العاقد خلاف معنى لفظ العقد لم يصح القول بأنه قاصد لمدلوله حكما، وترتب الأثر إنما يكون بحكم الشارع لا بإرادة العاقد (المرجع السابق ج - ١ ص ٢١٦ ص ٣٣٠ وأعلام الموقعين لابن القيم ج - ٣ ص ٩٥ وما بعدها طبع ادارة الطباعة المنيرية) هذا.
وقد أفاض ابن القيم فى الحديث عن الحيل مبينا منها المحرم والمباح موردا أمثلة شتى بلغت المائة وست عشرة مثالا (المرجع السابق ج - ٣ ص ١٤٠ وما بعدها حتى نهاية الجزء وج - ٤ من افتتاحه حتى ص ١٠١، واغاثة اللهفان من مصايد الشيطان لابن القيم ج - ٢ ص ٦٩) هذا ولما كان قد تردد فى بعض النقول السابقة أن الحيلة قد تكون مباحة، لا سيما بعد ما سلف من أن ابن القيم قد أورد أمثلة للمباح منها فى كتابيه أعلام الموقعين، وإغاثه اللهفان من مصايد الشيطان - لزم أن نشير إلى ضابط عام للحيل المشروعة ذلك أن اللحيل التى جاء الشرع بذمها والتحذير منها، بل وإبطالها هى ما هدم أصلا شرعيا، أو نقض مصلحة شرعية، فان كانت الحيلة لا تهدم أصلا شرعيا، ولا تناقض مصلحة شهد الشارع باعتبارها، فهى غير داخلة فى النهى وغير باطلة.
وقد وقع اختلاف الفقهاء فى بعض مسائل الحيل من جهة أنه لم يتبين فيها بدليل واضح أنها من النوع المحظور، أو من ذلك النوع المشروع، ومن ثم يلحقها بعضهم بالأول، بينما قد يلحقها بعضهم بالثانى والحيل المشروعة هى ما كان المقصود بها إحياء حق، أو دفع ظلم أو فعل واجب، أو ترك محرم، أو إحقاق حق، أو إبطال باطل، ونحو ذلك مما يحقق مقصود الشارع الحكيم، إذا كان الطريق سائغا مأذونا فيه شرعا.
وبهذا الاعتبار يمكن تعريف الحيلة الجائزة بأنها.
طريق خفى مأذون فيه شرعا، يتوصل به إلى جلب مصلحة أو درء مفسدة لا تتنافى ومقاصد الشرع ولا بد فيها من توافر ثلاثة أمور الأول أن يكون طريقها خفيا، إما لأن ظاهرة خلاف باطنه، أو لأن الذهب لا يلتفت إلى هذا الطريق عادة وإن لم يكن له ظاهر وباطن.
الثانى أن يكون الطريق مأذونا فيه شرعا، بألا يكون فيه تفويت حق الله أو للعباد.
الثالث أن يكون المقصود الذى يراد التوصل إليه مشروعا.
ومع هذه الأمور قد قسموا الحيل الجائزة إلى قسمين الأول أن تكون الطريق التى يسلكها المحتال مفضية إلى المقصود شرعا، ولكن فى إفضائها إليه نوع خفاء.
أما إن كانت مفضية إلى المقوصد إفضاء ظاهرا بوضع الشارع لها فليست من الحيل عند الاطلاق لغة، كالعقود الشرعية التى تترتب عليها أحكامها مثل البيع والإقالة والكفالة والحوالة والإجارة والسلم والخيارات، فإن أحكامها تترتب عليها بحكم الشارع وإذنه، وهى فى الأحكام التشريعية وزان الأسباب الحسية فى الأحكام القدرية كل يفضى إلى المقصود وسالكه سالك للطريق المشروع.
الثانى أن تكون الطريق التى يسلكها المحتال لمقصوده قد وضعت فى الشرع لمقصود آخر، غير أن ما يقصده المحتال منها لا يتنافى مع ما يقصده الشارع، فإن حصلت المنافاة بين المقصودين كانت الحيلة من الفريق المحظور (هذا التقسيم وما قبله من سمات الحيل الجائزة مستخلص من المراجع السابقة) وقد قال ابن القيم فى إغاثة اللهفان بعد إيراده لأمثلة من الحيل الجائزة بلغة ثمانين مثالا، قال والمقصود بهذه الأمثلة وأضعافها مما لم نذكره بيان أن الله سبحانه أغنانا بما شرعه لنا من الحنيفية السمحة، وما يسره من الدين على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وسهله للأمة عن الدخول فى الآصار والأغلال وعن ارتكاب طرق المكر والخداع والاحتيال، كما إغنانا عن كل باطل ومحرم وضار، وبما هو أنفع لنا منه من الحق والمباح النافع.
(ج - ٢ ص ٦٩) لما كان ذلك وكان بناء الشريعة على مصالح العباد فى العاجل والآجل وهذا ثابت بالعديد الوفير من آيات القرآن الكريم وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت الأعمال متعبرة بذلك، لأن مقصود الشارع فيها.
فإذا كان الأمر فى ظاهره وباطنه أصل المشروعية، كان موافقا لأحكام الشرع دون إشكال، وإن كان الظاهر موافقا والباطن مخالفا فالعمل غير صحيح وغير مشروع لوجوه الأول أن الشارع لما لم يشرع هذا السبب لذلك المسبب المعين دل على أن ذلك التسبب مفسدة لا مصلحة، وأن المصلحة المشروع لها المسبب منتفية بذلك التسبب، فيصبح العمل باطلا لمخالفته لقصد الشارع.
الثانى أن هذا السبب بالنسبة إلى المقصود غير مشروع، فصار كالسبب الذى لم يشرع أصلا، وإذا كان السبب الذى لم يشرع أصلا لا يصح، فكذلك ما شرع إذا أخذ لما لم يشرع له.
الثالث أن الأعمال الشرعية ليست مقصودة لذاتها وإنما المقصود بها أمور أخر هى معانيها، وهى المصالح التى شرعت لأصلها، فما يفعل على غير وضعه الشرعى لا يكون مشروعا.
من أجل ذلك كانت قاعدة سد الذرائع من قواعد الشريعة الثابتة قطعا بالكتاب والسنة، لأن من الأفعال ما يكون مباحا فى ذاته، ولكنه يؤدى إلى الإضرار بالدين أو بالعباد، فإجازة الحيل بإطلاق فيه عبث ظاهر بالحقوق، فوق ما فيه من مناكير أخرى يأباها الإسلام.
وإذا كانت العقود الشرعية معتبرة، وسد الذرائع قاعدة سديدة ثابتة وفق الأدلة المشروحة فى مواضعها، والمشار إلى بعضها فيما تقدم، كان ما فعله السائل داخلا فى نطاق الحيلة غير المشروعة، لأنه قد اقتضى من صاحب العمل مبلغا من النقود نقدا بقصد شراء مستلزمات للعمل الذى يقوم به لحساب رب العمل، وتكييف هذا أنه صار وكيلا فى هذا الشراء وأمينا على ما أقبضه إياه، وهذا هو القصد المشروع من هذا الفعل، والذى يقره الشرع حين أقبضه المبغل (١٣٠ جنيها) فإذا ما اقتضى السائل من هذا المبلغ ما اعتبره دينار له على رب العمل فقد احتال إلى هذا بطريق غير مشروع لاقتضاء الدين الذى قد يكون محل منازعة، وقد انقلب السائل بهذا العمل إلى قاض يقضى لنفسه فى خصومة هو مدعيها، دون رضاء أو استماع لأقوال المدعى عليه رب العمل.
وبذلك فقد ظفر السائر - بغير اختيار من عليه الحق - بما يدعيه حقا له مع أن سبب الحق فى هذه الواقعة ليس ثابتا طقعا، والآخذ بهذا الطريق ظالم فى الظاهر، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الفعال وسمى الآخذ بهذا الطريق خائنا فى الحديث الذى رواه أبو هريرة (الكنز الثمين فى أحاديث النبى الأمين برقم ١٠٩ ومراجعة من كتب السنة) (أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك) ونزولا على هذا الحديث كان على السائل سلوك الطريق القانونى لاقتضاء الحق إن كان.
والله سبحانه وتعالى أعلم