[حديث: فى غربة الإسلام]
المفتي
عطية صقر.
مايو ١٩٩٧
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
نريد توضيح معنى غربة الإسلام فى مبدأ الدعوة وعودته غرييا فى آخر الزمان؟
الجواب
روى مسلم فى صحيحه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء " وفى رواية أخرى " إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، وهو يأرز بين المسجدين كما تأرز الحية إلى جحرها" ومعنى يأرز ينضم ويجتمع، والمسجدان هما مسجد مكة، ومسجد المدينة، وفى جامع الترمذى فى الإيمان " إن الدين ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها، وليعقلن الدين من الحجاز معقل الأروية من رأس الجبل.
إن الدين بدأ غريبا ويرجع غريبا، فطوبى للغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس من بعدى من سنتى" ومعنى ليعقلن يمتنعن كما تمتنع الأروية من روءس الجبال والأُروية-بضم الهمزة وسكون الراء وكسر الواو وتشديد الياء -هى الأنثى من الوعول. . . وهى خراف الجبال، وجمعها أراوى - على وزن أفاعيل - فإذا كثرت فهى الأروى - على وزن أفعل - على غير قياس كما ذكره الدميرى فى كتابه "حياه الحيوان الكبرى - أروية ". تخبر هذه الأحاديث عن غربة الإسلام فى أول تاريخه وآخره، وهو نهاية العالم، لأنه دين عام خالد يصلح لكل زمان ومكان. ولا ينسخه دين آخر إلى أن تقوم الساعة. " والغربة إما غربة فى الأشخاص وإما غربة فى المبادئ والمعنيان صحيحان، فقد بدأت الدعوة الإسلامية بمكة، وكان عدد المسلمين فيها قليلا وظل كذلك حوالى ثلاثة عشر عاما، وكان المسلمون بين مشركى مكة كالجالية الإسلامية فى دولة غير إسلامية، وبعد الهجرة بدأ عدد المسلمين يتكاثر وتتابع دخول الناس أفواجا فى الدين بعد فتح مكة، وما زال عددهم يزيد حتى تعدى اليوم ألف مليون من المسلمين لا تخلو منهم قارة من القارات أو دولة من الدول فى العالم كله. وفى آخر الزمان سيقل عددهم بسبب غزو الأفكار وكثرة الأراء والمذاهب المنحرفة وتحكم المادية فى النفوس وغلبة أهل البغى والفساد على البلاد الإسلامية.. . ومحاولة تقليل عددهم بالقتل أو التجويع أو بوسائل أخرى حتى يكون عددهم قليلا جدا بالنسبة إلى غيرهم من أصحاب الأديان والمذاهب الأخرى وبسبب تراخى المسلمين عن التمسك بدينهم لعدم فهمهم له فهما صحيحا يسايرون به ركب التطور، ولعدم غيرتهم عليه والقناعة به أمام المغريات أو الضواغط المحيطة بهم.
والغرباء فى أول الزمان وأخره لهم منزلة عالية عند الله لأنهم تمسكوا بدينهم ولم ينزلقوا كما انزلق غيرهم رغبا أو رهبا، وهو معنى "فطوبى للغرباء" أى العاقبة الطيبة لهم عند الله لأنهم فى شجاعتهم وقوتهم كالقابضين على الجمر، وفى إصلاحهم ما أفسده الناس من الدين أبطال مغاوير فى ميدان الجهاد، يعانون ويقاسون محتسبين أجرهم عند الله سبحانه.
وقد أخبر النبى صلى الله عليه وسلم عن هؤلاء الغرباء فى آخر الزمان بقوله "لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتى أمر الله ".
هذا فى غربة الأشخاص، أما غربة المبادئ التى جاء بها الإسلام فواضحة، لأن أحمل مكة بالذات واجهوا الدعوة بعنف، لغرابة ما جاءت به فى عقيدة التوحيد والبعث بوجه خاص {أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشىء عجاب} ص: ٥، {إئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون} الواقعة: ٤٧، وكذلك كانت سائر المبادئ الأخلاقية والتنظيمية التى شملت كل قطاعات النشاط البشرى، موضع دهشة لمن يسمع عنها.
ثم موضع إعجاب وتقدير لمن تدبرها وآمن بها، لأنها حققت كرامة الإنسان وسعادته بما لم تحققه النظم والمبادئ الأخرى.
ونظرا لكثرة الحملات المسعورة ضد الإسلام الذى أنشأ أمة توحِّد الله وتسبِّح بحمده فى رقعة واسعة من الأرض فإن المبادئ الأخرى التى تمس جانبا واحدا من جوانب السعادة. وهو الجانب المادى فى العاجل قد جذبت بعوامل الإغراء ووسائل الدعاية أنظار الكثيرين من الناس وصرفتهم عن الجانب الروحى من السعادة، وصارت الدعوة إلى القيم الدينية والروحية غريبة وسط الدعوات الأخرى كما كانت غريبة حين جاء بها الإسلام منذ عدة قرون. والجهاد فى هذه الظروف جهاد يعتمد إلى حد كبير على شرح المبادئ الإسلامية بأسلوب يناسب العصر، ونشرها بكل وسيلة ممكنة لغزو الأفكار المضادة فى عقر دارها. لا يكتفى فيه بالدفاع المتراخى الذى لا يصمد أمام الأسلحة المدمرة بحدَّيها المادى والأدبى. . .
ومهما يكن من شىء فإن النصر سيكون للحق فى النهاية، لأن الله هو الحق، ولأن الإسلام دين الحق، والنصر إن لم يكن عاجلا فى الدنيا -كما ندعو إليه -فسيكون آجلا فى الآخرة كما نثق به، لأن ذلك مقتضى عدل الله سبحانه والإيمان بصدق وعده حيث، قال {وكان حقا علينا نصر المؤمنين} الروم: ٤٧، وقال {ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوى عزيز} الحج: ٤٠، وقد تحقق النصر فى العصور الأولى لأن المسلمين نصروا دين الله بالتمسك به تمسكا صحيحا شاملا خالصا، وقرار الله باق وصادق إن حقق المسلمون اليوم نصر الدين تحقق نصر الله لهم {إن الله لا يخلف الميعاد} .
إن العدو متربص يخشى عودة الإسلام مرة أخرى دولة قوية، فهو يحاربه فى كل مكان وبكل سلاح،فلنتسلح بكل سلاح تنفس عنه الابتكار والتطور، دون جمود على الأساليب القديمة التى كانت تناسب عصرها، فلكل مقام مقال، ولكل ميدان سلاح وذلك كله فى ظل الإيمان بالله القوى الذى لا يغلب {وما النصر إلا من عند الله} آَل عمران: ١٢٦، {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين} البقرة:
٢٤٩