للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[العلمانية]

المفتي

عطية صقر.

مايو ١٩٩٧

المبادئ

القرآن والسنة

السؤال

يتحدث الناس كثيرا عن العلمانية، فما هو أصلها وما هو موقف الإسلام منها؟

الجواب

مما هو مقرر أن الحكم على الشىء فرع عن تصوره، فلابد من تحديد المفاهيم حتى يمكن الحكم عليها حكما صحيحا، والعلمانية لفظ وجد فى كتبنا العربية حديثا عند ترجمة ما يقابلها فى اللغات الأجنبية عن طريق الإدارة العامة للتشريع والفتوى بمجلس الأمة المصرى - آنذاك - كما هو ثابت فى الموسوعة العربية للدساتير العالمية التى أَصدرها المجلس المذكور سنة ١٩٦٦ م. وبعيدا عن صحة النطق بهذه الكلمة، الذى ذهب فيه الكاتبون مذاهب شتى، وكان فرصة استغلت للدعوة إلى وجهة نظر معينة كما هو شأن المتشابه من النصوص الذى جاء فيه قول الله تعالى: {فأما الذين فى قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله. . .} آل عمران: ٧،. بعيدا عن ذلك، فإن نسبة العلمانية إلى العلم أو العالم ليست على قياس لغوى، وهى ترجمة للكلمة الإفرنجية " لاييك " أو" سيكولا ريسم " وتعنى " لا دينية" على أى وجه تكون، وفى أى ميدان تطبق، وعلى أى شىء تطلق. وهى نزعة أو اتجاه أو مذهب اعتنقه جماعة فى أوروبا فى مقابل ما كان سائدا فيها فى العصور المظلمة، التى تسلط فيها رجال الدين على كل نشاط فى أى ميدان، مما تسبب عنه ركود وتخلف حضارى بالنسبة إلى ما كان موجودا بالذات عند المسلمين من تقدم فى كل المجالات. وكان معتنقو هذا المذهب فى أول الأمر فى القرنين السابع عشر والثامن عشر قد وقفوا من الدين موقف عدم المبالاة به، وتركوا سلطانه يعيش فى دائرة خاصة، واكتفوا بفصله عن الدولة. ومن أشهر هؤلاء "توماس هوبز " الإنجليزى المتوفى سنة ١٦٧٩ م، " جون لوك " الإنجليزى المتوفى سنة ١٧٠٤ م، " ليبنيتز" الألمانى المتوفى سنة ١٧١٦ م، " جان جاك روسو" المتوفى سنة ١٧٧٨ م. وفى القرن التاسع عشر كانت المواجهة العنيفة بين العلمانية والدين، وذلك لتغلغل المادية فى نفوس كثير ممن فتنوا بالعلم التجريبى، إلى حد أنكروا فيه الأديان وما جاءت به من أفكار، واتهموها بتهم كثيرة كرد فعل للمعاناة التى عانوها من رجال الدين وسلطانهم فى زمن التخلف الذى نسبوه إلى الدين، ذلك الدين الذى كان من وضع من تولوا أمره، والدين الحق المنزل من عند الله برىء منه. ومن أشهر هؤلاء المهاجمين " كارل ما كس " الألمانى المتوفى سنة ١٨٨٣ م، " فريدريك أنجلز " الألمانى المتوفى١٨٩٥ م، " فلاديمير أوليانوف لينين " الروسى المتوفى سنة ١٩٢٤ م. هؤلاء لم يقبلوا أن تكون هثاك سلطة ثانية أبدا، حتى لو لم تتدخل فى شئون الدولة، وإن كانت هذه العداوة للدين بدأت تخف، وتعاونت السلطات السياسية والاستعمارية على تحقيق أغراضها. لقد تأثر بهذا المذهب كثيرون من الدول الغربية، وقلدها فى ذلك بعض الدول الشرقية، ووضعت دساتيرها على أساس الفصل بين السياسة والدين، مبهورة بالتقدم والحضارة المادية الغربية، اعتقادا أنها وليدة إقصاء الدين عن النشاط السياسى والاجتماعى.

إن العلمانية بهذا المفهوم، وهو عدم المبالاة بالدين، يأباها الإسلام، الذى هو من صنع الله وليس من صنع البشر، فهو منزه عن كل العيوب والمآخذ التى وجدت فى الأديان الأخرى التى لعبت فيها الأصابع وحرفتها عن حقيقتها. ذلك لأنه دين الإصلاح الشامل، الذى ينظم علاقة الإنسان بربه وعلاقته بالمجتمع الذى يعيش فيه، ويوفر له السعادة فى الدنيا والاَخرة على السواء، فهو كما يقال، دين ودنيا، أو دين ودولة، أو عبادة وقيادة. . . ومن مظاهر ذلك ما يأتى:

١ - عقائد الإسلام ليست فيها خرافات ولا أباطيل، فهو يقدس العقل ويأمر بتحكيمه إلى حد كبير.

٢ - الإسلام ليس منغلقا على معلومات معينة يتلقاها بنصها من الوحى، بل هو كما يقال، دين منفتح على كل المعارف والعلوم ما دامت تقوم على حقائق وتستهدف الخير.

٣ - الإسلام يمقت الرهبنة التى تعطل مصالح الدنيا، ويجعل النشاط الذى يبذل لتحقيق هذه المصالح فى منزلة عالية، لأنه جهاد فى سبيل الله، والتاجر الصدوق الأمين يحشر مع النبيين والصديقين، فهو دين يعمل للدنيا والآخرة معا.

٤ - الإسلام يقرر أن السلوك الاجتماعى مقياس لقبول العبادة، فمن لم تثمر عبادته، بمفهومها الخاص من العلاقة بين العبد وربه، استقامة فى السلوك فهى عبادة مرفوضة لا يقبلها اللَّه {فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون * الذين هم يراءون * ويمنعون الماعون} الماعون: ٤ - ٧.

هـ - الإسلام ليس فيه كهنوت يتحكم فيه بعض من الناس فى مصائر الناس بإدخالهم الجنة أو حرمانهم منها، بناء على اعتبارات خاصة، فمدار ذلك على العقيدة الخالصة والعمل الصالح، وليس المشتغلون بعلوم الدين إلا معلمين ومرشدين، والأمر متروك بعد ذلك لمن شاء أن يستفيد أو لا يستفيد بالتطبيق.

وقد يكون المتعلم أقرب إلى الله من معلمه، بالتزام الطريق المستقيم الذى رسمه الله لهم جميعا، فما دامت العبادة للَّه وحده فهو وحده الذى يقبل منها ما يشاء.

٦ -الإسلام ليس فيه سلطة مقدسة مستمدة من سلطة اللَّه، وليس فى البشر من هو معصوم من الخطأ، إلا من اصطفاه الله لرسالاته، والحكم من ذوى السلطان ليس لذواتهم، بل الحكم للدين أولا واَخرا، فكل شىء فيه اختلاف رأى يرد إلى اللَّه وإلى الرسول، أى الكتاب والسنة.

٧- مبادىء الشريعة تستهدف تحقيق المصلحة، فإذا لم يوجد نص واضح فى أمر تعددت فيه وجهات النطر من أهل النظر وكان يحقق المصلحة العامة كان مشروعا، وبخاصة فى أمور الدنيا، فالناس أعلم بشئونها.

٨ - الإسلام دين تقدم وتطور وحضارة، ليس جامدا ولا متمسكا بالقديم على علاته فهو ينهى عن التبعية المطلقة فى الفكر أو السلوك الذى يظهر بطلانه، بل يقرر أن الله يبعث مجددين على رأس كل قرن، يوضحون للناس ما أبهم، ويصححون لهم ما أخطأوا فيه ويوائمون بين الدين والحياة فيما تسمح به المواءمة، لأنه دين صالح لكل زمان ومكان، ومن مبادىء التربية المأثورة عن السلف:

لا تحملوا أولادكم على أخلاقكم فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم. والمراد بالأخلاق العادات التى تقبل التغيير، أما أصول الأخلاق فثابتة.

بهذا وبغيره نرى الإِِسلام يرفض العلمانية، وأن المسلمين ليسوا فى حاجة إليها، وإنما هم فى حاجة إلى فهم دينهم فهما صحيحا، وتطبيقه تطبيقا سليما كاملا، كما فهمه الأولون وطبقوه، فكانوا أساتذة العالم فى كل فنون الحضارة والمدنية الصحيحة، وضعف المسلمين وتأخرهم ناتجان عن الجهل بحقائق الدين وبالتالى عدم العمل بما جاء به من هدى، وبالجهل قلدوا غيرهم فى مظاهر حضارتهم، وآمنوا بالمبادىء التى انطلقوا منها دون عرضها على مبادىء الإِِسلام، لأنهم لا يعرفون عنها إلا القليل. ولئن رأينا بعض دول المسلمين الآن قد نقلوا معارف غيرهم ممن يدينون بالعلمانية، فليس ذلك دليلا على أنهم آمنوا بما آمنوا به، وإنما هو للاطلاع على ما عندهم حتى يعاملوهم على أساسه، وإذا كانوا قد قبسوا من مظاهر حضارتهم فذلك للاستفادة من نتائج علمهم وخبرتهم فيما يقوى شوكة المسلمين ويدفع السوء عنهم، والتعاون فى المصالح أمر تفرضه طبيعة الوجود، وهو مشاهد فى كل العصور على الرغم من اختلاف العقائد والأديان. والمهم ألا يكون فى ذلك مساس بالعقيدة أو الأصول المقررة وأن يستهدف الخير والمصلحة. هذا، والأدلة على ما قلناه مما جاء به الإِِسلام كثيرة تركتاها للاختصار، والمقصود هو إلقاء بعض الضوء على هذا المصطلح وموقف الدين منه

<<  <  ج: ص:  >  >>