للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[التعريض والتورية]

المفتي

عطية صقر.

مايو ١٩٩٧

المبادئ

القرآن والسنة

السؤال

قدم لى بعض الزملاء مشروبا لا أريده، واستحييت أن أرفضه، فقلت له: أنا صائم أو أنا ناو، وأريد بذلك نية عدم تناول شىء عنده، أو أنا صائم عن قبول أى شىء أى ممتنع عنه، فهل يكون هذا كذبا محرما؟

الجواب

تحدث العلماء عما يسمى بالتعريض والتورية، ومعناهما أن يطلق الإنسان لفظا يحتمل معنيين، يكون ظاهرا فى واحد منهما ويريد هو المعنى الآخر، وهو نوع من الكذب فيه تغرير وخداع، يقول النووى فى كتابه "الأذكار" ص ٣٨٠ فى بيان حكمه:

قال العلماء: فإن دعت إلى ذلك مصلحة شرعية راجحة على خداع المخاطب. أو دعت إليه حاجة لا مندوحة عنها إلا بالكذب فلا بأس بالتعريض. فإن لم تدع إليه مصلحة ولا حاجة فهو مكروه وليس بحرام، فإن توصل به إلى أخذ باطل أو دفع حق فيصير حينئذ حراما، وهذا ضابط الباب. ثم ذكر للتنفير منه حديثا رواه أبو داود بإسناد فيه ضعف. لكن سكت عنه أبو داود فلم يحكم بضعفه فيقتضى أن يكون حسنا عنده، وهذا الحديث عن سفيان بن أسيد-بفتح الهمزة - رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "كبرت خيانة أن تحدِّث أخاك حديثا هو لك به مصدِّق وأنت به كاذب".

ثم ذكر مثالا للتعريض المباح قاله النخعى رحمه الله، وهو إذا بلغ الرجل عنك شىء قلته فقل: الله يعلم ما قلت من ذلك من شىء فيتوهم السامع النفى المأخوذ من قوله: ما قلت من ذلك من شىء ومقصودك أن الله يعلم ما قلته وقال النخعى أيضا: لا تقل لابنك: أشترى لك سكرا، بل قل. أرأيت لو اشتريت لك سكرا؟ وكان النخعى إذا طلبه رجل قال للجارية: قولى له: اطلبه فى المسجد، وكان الشعبى يخط دائرة ويقول للجارية: إذا طلبنى أحد فضعى إصبعك فى الدائرة وقولى: ليس هو هاهنا، ومثل هذا قول الناس فى العادة لمن دعاه إلى الطعام: أنا على نية، موهما أنه صائم، ومقصوده على نية ترك الأكل. يقول النووى:

لو حلف على شىء من هذا وورَّى فى يمينه لم يحنث، سواء حلف بالله تعالى أو حلف بالطلاق أو غيره، فلا يقع عليه طلاق ولا غيره، وهذا إذا لم يحلِّفه القاضى فى دعوى، فإن حلفه القاضى فى دعوى فالاعتبار بنية القاضى إذا حلفه بالله تعالى، فإن حلفه بالطلاق فالاعتبار بنية الحالف، لأنه لا يجوز للقاضى تحليفه بالطلاق، فهو كغيره من الناس.

والإمام الغزالى فى كتابه "إحياء علوم الدين "ج ٣ ص ١١٧ تحدث عن الكذب والأحوال التى يرخص فيها بالكذب الذى قد يكون واجبا إذا ترتب عليه نجاة مسلم من قتل عدو له، مقررا هذه القاعدة: الكلام وسيلة إلى المقاصد، فكل مقصود محمود يمكن التوصل إليه بالصدق وبالكذب جميعا فالكذب فيه حرام، وإن أمكن التوصل إليه بالكذب دون الصدق فالكذب فيه مباح إن كان تحصيل ذلك القصد مباحا وواجب إن كان المقصود واجبا.

بعد ذلك حذر الغزالى من الكذب بالمعاريض، فنقل عن السلف قولهم:

إن فى المعارض مندوجة عن الكذب، ونقل عن عمر رضى الله عنه قوله: أما فى المعاريض ما يكفى الرجل عن الكذب؟ وروى ذلك عن ابن عباس وغيره، وأجازه فقط عند الضرورة، فإذا لم تكن حاجة أو ضرورة فلا يجوز التعريض ولا التصريح جميعا، ولكن التعريض أهون. .

وذكر الغزالى أمثلة على جواز التعريض منها ما نقله النووى فيما سبق، ثم ذكر من الأمثلة قول النبى لامرأة عجوز "لا يدخل الجنة عجوز" فبكت فبين لها لا تكون عند دخول الجنة عجوزا، وتلا قوله تعالى {إنا أنشأناهن إنشاء. فجعلناهن أبكارا. عربا أترابا} : الواقعة ٣٥-٣٧. وهذا الحديث مرسل ذكره الترمذى فى الشمائل وأسنده ابن الجوزى بسند ضعيف ومثله قول امرأة له: احملنى على بعير، فقال "بل نحملك على ابن البعير" فقالت: ما أصنع به؟ إنه لا يحملنى، فقال،ما من بعير إلا وهو ابن بعير" رواه أبو داود والترمذى وصححه عن أنس بلفظ "أنا حاملك على ولد الناقة".

والقرطبى فى تفسيره "ج ١٠ ص ١٩٠ " ذكر ما نقله النووى عن الغزالى، وذكر ابن عبد ربه فى كتابه "العقد الفريد"ج ١ ص ٢٥٤ طبعة ١٣١٦ هـ أن الله كنى عن الجماع بالملامسة وعن الحدث بالغائط، وعن البرص بقوله لموسى {واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء} القصص: ٣٢.

ومما يتصل بهذا الموضع ما روته كتب الأدب أن الحجاج بن يوسف الثقفى مَرَّ مع حاجبه فى وقت متأخر من الليل: وكان قد نهى عن الخروج فى هذا الوقت، فوجد ثلاثة فتيان سكارى، فأمر حاجبه أن يسألهم: من أنتم حتى خرجتم فى هذا الوقت؟ فقال أولهم:

أنا ابن من دانت الرقاب له * ما بين مخزومها وهاشمها تأتيه بالرغم وهى صاغرة * يأخذ من مالها ومن دمها فقال: لعله من أشراف بنى هاشم أو مخزوم، ثم سأل الثانى فقال:

أنا ابنٌ لمن لا تنزل الدهر قدره * وإن نزلت يوما فسوف تعود ترى الناس أفواجا إلى ضوء ناره * فمنهم قيام حولها وقعود فقال: لعله من أجواد العرب، ثم سأل الثالث فقال:

أنا ابن لمن خاض الصعاب بعزمة * وقوَّمها بالسيف حتى تولت ركاباه لا ينفك رجلاه فيهما * إذا الخيل فى يوم الكريهة ولت فقال: لعله ابن فارس من العرب، فتركهم، ثم سأل عنهم بعد ذلك فعرف أن الأول ابن حجام، والثانى ابن فوال بائع فول، والثالث ابن حائك أى نساج، فقال: لولا فصاحتهم لقتلتهم

<<  <  ج: ص:  >  >>