[الصلاة بين موسى ومحمد]
المفتي
عطية صقر.
مايو ١٩٩٧
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
قرأنا فى بعض المجلات بمناسبة كلام موسى مع النبى حين أخبره بأن الصلاة فرضت عليه خمسين [أن موسى لم يكن وصيا على الرسول حتى يقول له ارجع إلى ربك اكثر من مرة، فهذا الحديث دخيل إسرائيلى يبين أن منزله موسى رفيعة، وأنه هو الذى وجّه نبيكم محمدا - عليه الصلاة والسلام - للتخفيف عنكم] فما رأى الدين فى ذلك؟
الجواب
حديث الإسراء والمعراج رواه البخارى ومسلم وغيرهما، وهو بهذا فى أعلى درجات الصحة، وجاء فيه أن الله عندما فرض على النبى صلى الله عليه وسلم الصلاة خمسين أشار عليه سيدنا موسى أن يسأل ربه التخفيف، فخففت حتى صارت خمسا فى العمل وخمسين فى الأجر.
ويجب أن يلاحظ أن هذا الحديث فى موضوع خارق للعادة وفوق مستوى العقل البشرى، ويجب التصديق به وعدم تكذيبه، كما عليه أكثر العلماء من أن الخبر يفيد العلم اليقينى إذا كان متواتراً، أو كان حديث آحاد ثبتت صحته.
كما يلاحظ أن الواجب هو تصديق الخبر من هذا النوع بجملته، وإن ترك -وهذا ما لا يجوز-يترك كله، ولا يصدق بعضه ويرفض بعضه الآخر.
إن فرض الصلاة ليلة الإسراء والمعراج على هذا النحو لم يعارض فيه أحد من شراح الحديث، وما جرؤ واحد منهم على أن يقول: إن تردد محمد صلى الله عليه وسلم بين ربه وموسى لسؤاله التخفيف -أمر دخيل على السنة وأنه من صنع اليهود ليثبتوا به الوصاية لموسى على محمد-بل إنهم آمنوا به إيمانا عميقا جعلهم يبنون على هذه الفقرة من الحديث قاعدة أصولية، وهى هل يجوز النسخ قبل الفعل أو لا يجوز؟ .
ثم لماذا يقال: إن هذه الفقرة تسلل إسرائيلى لصالح اليهود، ولا يقال إنها ترتيب إلهى يسجل صورة من تمرد اليهود على موسى من ضمن صور التمرد، التى حدثت منهم، وهذا ما يدل عليه قول موسى للرسول عليه الصلاة والسلام فى الحديث "فإنى قد بلوت بنى إسرائيل وخبرتهم "يقول الشراح: أى علمت منهم عدم الوفاء بذلك مع قوة أجسادهم وطول أعمارهم فلم أجد لهم صبرا على ذلك فكيف حال أمتك.
وقال القرطبى: الحكمة فى تخصيص موسى بمراجعة النبى صلى الله عليه وسلم فى أمر الصلوات يحتمل أن تكون لكون أمة موسى عليه السلام كلفت من الصلوات ما لم يكلف به غيرها من الأمم قبلها فثقلت عليهم، فأشفق موسى على أمة محمد من مثل ذلك، ويشير إليه قوله: إنى جربت الناس قبلك.
"الزرقانى على المواهب اللدنية ج ٦ ص ١٢٣ ". وهناك توضيحات كثيرة لهذه النقطة لم يجر فيها نقد لها أو مجرد شبهة أنها دخيل إسرائيلى.
إن الأنبياء جميعا إخوة من علات أمهاتهم شتى ودينهم واحد كما ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم، وليس بعيدا أن يشير أخ على أخيه بما يحقق له ولأمته المصلحة، ثم ماذا يقول من يرفضون هذه القطعة من الحديث خوفا أن يظن أن هناك وصاية من موسى على محمد فى تكريم محمد لموسى وعيسى ويونس وغيرهم من الأنبياء، وقد ثبت فى الحديث الصحيح قوله "وأنا أولى الناس بعيسى ابن مريم لأنه ليس بينى وبينه نبى" وقوله عن موسى "لا تخيرونى على موسى فان الناس يصعقون فأكون أول من يفيق فإذا موسى باطش بجانب العرش فلا أدرى أكان فيمن صعق فأفاق قبلى أم كان ممن استثنى الله " وقوله "ما ينبغى لعبد أن يقول: أنا خير من يونس" وماذا يقول فى قول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بعد ذكر الأنبياء فى سورة الأنعام: ٩٠، {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} هل كانت لهم وصاية عليه صلى الله عليه وسلم؟ .
ليس هناك وجه صحيح أبدا لرفض هذه المحادثة التى جرت بين موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، إن وجدنا فهما ممكنا وقريبا على وجه يبعد هذه الشبهة عن علاقة موسى بمحمد، وأخشى أن تتحكم بعض الأفهام فى النصوص الثابتة فترفضها لوجهة نظر قد غلبتها ظروف قائمة، مع أن مخارج الفهم الصحيح لها كثيرة، ولولا أن القرآن الكريم قطعى الثبوت لقال بعض الناس فى قوله تعالى: عن القرآن الكريم {وإنه لتنزيل رب العالمين. نزل به الروح الأمين. على قلبك لتكون من المنذرين. بلسان عربى مبين. وإنه لفى زبر الأولين. أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بنى إسرائيل} الشعراء: ١٩٢ - ١٩٧، كيف يحيل الله التصديق بالقرآن أو بمحمد على علماء بنى إسرائيل، أليس فى ذلك وصاية منهم على القرآن ومحمد؟ وكيف يجعل لهؤلاء سلطانا وشهادة على ذلك فى قوله تعالى {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحى إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} النحل: ٤٣، ومهما قيل فى هؤلاء فإن المقصود بهم من آمنوا منهم بالرسول والقرآن، فيكفى أن الله شهيد على صدق محمد فى رسالته ومعجزته، ولا حاجة لهؤلاء.
إن حديث الإسراء والمعراج حديث الغرائب، وهو صحيح فى جملته وتفصيله كما رواه البخارى ومسلم، ولم يجرحه أحد من المحدثين لا فى متنه ولا فى سنده، ولم يقل أحد من الشراح إن فيه تسللا إسرائيليا فى مشهد من مشاهده أو موقف من مواقفه بل إن إعجابهم بهذا الموقف جعلهم يكثرون من التعليق عليه بألوان شتى تؤكد صدقه وحكمته المقصودة من ورائه ليفهمها من يصعب عليهم الفهم بعد أربعة عشر قرنا وضع فيها هذا الحديث على بساط البحث أمام مئات وآلاف عباقرة الإسلام المتخصصين الغيورين ولم يدر بخلد واحد منهم ما يدور اليوم بخلد غيرهم ممن يعجزون عن إقامة الدليل الصحيح المقنع على ما يدعون {وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغنى من الحق شيئا} النجم: ٢٨.
لئن كان هذا فهما لغير مسلم لهان الأمر وقلنا "شنشنة أعرفها من أخزم " وجزء من حملة التشكيك فى السنة ذريعة للتشكيك فى القرآن، فكيف إذا كان هذا فهما لمسلم؟ لئن كان القصد سليما فإن رد الفعل على عقول وأفهام الكثيرين رد يخشى منه على نظرة البسطاء للسنة وللدين بوجه عام {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} النمل: ٦٤