[المسبحة]
المفتي
عطية صقر.
مايو ١٩٩٧
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يقول بعض الناس إن التسبيح على السبحة بدعة، فهل هذا صحيح؟
الجواب
السبحة "بضم السين المهملة وسكون الباء الموحدة" هى الحرز المنظوم والتى يعد بها الذكر والتسبيح، وقيل: إنها غربية وتجمع على "سبح " بضم السين وقيل إنها مولدة.
وإحصاء الذكر بالسبحة من اختراع الهند، كما يقول الأستاذ السيد أبو النصر أحمد الحسينى "مجلة ثقافة الهند -سبتمبر١٩٥٥ " اخترعه الدين البرهمى فيها، ثم تسرب إلى البلاد والأديان الأخرى، وتسمى السبحة فى اللغة السنسكريتية القديمة فى الهند "جب ما لا " أى عقد الذكر.
ثم يقول: وتختلف الفرق البرهمية فى عدد حباتها وفى ترتيبها، فالفرقة الشيوائية سبحتها أربع وثمانون حبة، والفرقة الوشنوية سبحتها مائة وثمان حبات. والخلاف راجع إلى حاصل ضرب ١٢ "عدد الأبراج السماوية" فى ٧ "عدد النجوم الظاهرة بما فيها الشمس والقمر عند الفرقة الأولى" أو فى ٩ "عدد النجوم الظاهرة عند الفرقة الثانية بإضافة أحوال القمر الثلاثة" وكل سبع حبات فى مجموعة متميزة.
وعند ظهور البوذية فى الهند بعد البرهمية اختار رهبانها السبحة الوشنوية "١٠٨ " من الحبات. وعند تفرق طوائفها فى البلاد قلد رهبان النصرانية هؤلاء فيها، وكل ذلك قبل ظهور الإسلام.
جاء الإسلام فأمر بذكر الله كما أمر بسائر العبادات والقربات والطاعات، وإذا كان الأمر بالذكر قد ورد مطلقا بدون حصر فى عدد معين أو حالة خاصة كما فى قوله تعالى {الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم} آل عمران: ١٩١، وقوله أيضا {يا أيها الذين آمنوا اذكروا اللَّه ذكرا كثيرا * وسبحوه بكرة وأصيلا} الأحزاب: ٤١، ٤٢، فقد وردت أحاديث تحدد عدده ووقته، كما فى ختام الصلاة بثلاث وثلاثين تسبيحة، وثلاث وثلاثين تحميدة، وثلاث وثلاثين تكبيرة، وتمام المائة: لا إله إلا الله وحده ... وكما جاء فى نصوص أخرى فى فضل بعض الذكر عشر مرات أو مائة مرة، وهنا يحتاج الذاكر إلى ضبط العدد، فبأى وسيلة يكون ذلك؟ ليس فى الإسلام وسيلة معينة أمرنا بالتزامها حتى لا يجوز غيرها، والأمر متروك لعرف الناس وعاداتهم فى ضبط أمورهم وحصرها، والإسلام لا يمنع من ذلك إلا ما تعارض مع ما جاء به. والمأثور أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يعقد التسبيح بيده، كما رواه أبو داود والترمذى والنسائى والحاكم وصححه عن ابن عمر، وأرشد أصحابه إلى الاستعانة بالأنامل عند ذلك، فقد روى أبو داود والترمذى والحاكم عن " بسرة " وكانت من المهاجرات، أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "عليكن بالتسبيح والتهليل والتقديس ولا تغفلن فتنسين التوحيد، واعقدن بالأنامل فإنهن مسؤولات مستنطقات ".
غير أن الأمر بالعد بالأصابع ليس على سبيل الحصر بحيث يمنع العد بغيرها، صحيح أن العد بالأصابع فيه اقتداء النبى صلى الله عليه وسلم لكنه هو نفسه لم يمنع العد بغيرها، بل أقر هـ، وإقراره من أدلة المشروعية.
ا-أخرج الترمذى والحاكم والطبرانى عن صفية رضى الله عنها قالت: دخل علىَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين يدى أربعة آلاف نواة أسبح بهن، فقال "ما هذا يا بنت عمى "؟ قلت: أسبح بهن، قال "قد سبحت منذ قمت على رأسك أكثر من هذا" قلت علمنى يا رسول الله، قال: " قولى سبحان اللَّه عدد ما خلق من شيء ".
والحديث صحيح.
ب - وأخرج أبو داود والترمذى وحسنه والنسائى وابن ماجه وابن حبان والحاكم وصححه عن سعد بن أبى وقاص أنه دخل مع النبى صلى الله عليه وسلم على امرأة، وبين يديها نوى أو حصى تسبح، فقال " أخبرك بما هو أيسر عليك من هذا وأفضل؟ قولى: سبحان الله عدد ما خلق فى السماء، سبحان اللَّه عدد ما خلق فى الأرض سبحان الله عدد ما بين ذلك. وسبحان اللَّه عدد ما هو خالق، الله أكبر مثل ذلك، والحمد لله مثل ذلك، ولا إله إلا الله مثل ذلك ".
وإلى جانب إقرار النبى صلى الله عليه وسلم لهذا العمل وعدم الإنكار عليه، اتخذ عدد من الصحابة والسلف الصالح النوى والحصى وعقد الخيط وغيرها وسيلة لضبط العدد فى التسبيح ولم يثبت إنكار عليهم.
١ -ففى مسند أحمد - فى باب الزهد-أن أبا صفية-وهو رجل من الصحابة-كان يسبح بالحصى وجاء فى معجم الصحابة للبغوى أن أبا صفية، وهو مولى النبى صلى الله عليه وسلم، كان يوضع له نطع - فراش من جلد- ويجاء بزنبيل فيه حصى فيسبح به إلى نصف النهار، ثم يرفع، فإذا صلى الأولى أتى به فيسبح به حتى يمسى.
٢ - وروى أبو داود أن أبا هريرة كان له كيس فيه حصى أو نوى يجلس على السرير، وأسفل منه جارية سوداء، فيسبح حتى إذا نفد ما فى الكيس فدفعته إليه يسبح، ونقل ابن أبى شيبة عن عكرمة أن أبا هريرة كان له خيط فيه ألفا عقدة، فكان لا ينام حتى يصبح به اثنى عشر ألف تسبيحة.
٣- وأخرج أحمد أيضا في باب الزهد أن أبا الدرداء كان له نوى من نوى العجوة فى كيس، فإذا صلى الغداة - الصبح - أخرجهن واحدة واحدة يسبح بهن حتى ينفدن.
٤ -وأخرج ابن أبى شيبة أن سعد بن أبى وقاص، كان يسبح بالحصى أو النوى، وأن أبا سعيد الخدرى كان يسبح أيضا بالحصى.
٥ -وجاء فى كتاب "المناهل المسلسلة لعبد الباقى " أن فاطمة بنت الحسين كان لها خيط تسبح به.
٦ - وذكر المبرد فى "الكامل " أن على بن عبد اللَّه بن عباس المتوفى ١١٠ هـ -كان له خمسمائة أصل شجرة من الزيتون، وكان يصلى كل يوم إلى كل أصل ركعتين، فكان يدعى "ذا النفثات " فكأنه كان يعد تركعه بالأشجار.
[لا يهمنا من هذا الخبر الذى لم تتوفر له مقومات الصدق عدد ما كان يصليه صاحب هذه الأشجار فى اليوم الواحد، وهو ألف ركعة، إنما يهمنا هو أن وسيلة الإحصاء كانت الشجر،. وبناء على هذه الأخبار لم تكن "السبحة" المعهودة لنا معروفة عند المسلمين حتى أوائل القرن الثانى الهجرى، ويؤيد ذلك ما نقله الزبيدى فى "تاج العروس " عن شيخه أن السبحة ليست من اللغة فى شيء ولا تعرفها العرب، إنما حدثت فى الصدر الأول إعانة على الذكر وتذكيرا وتنشيطا.
يقول الأستاذ الحسينى فى المجلة المذكورة: ويظهر أن استعمالها تسرب بين المسلمين فى النصف الثانى من القرن الثانى الهجرى، فإن أبا نواس ذكرها وهو فى السجن، فى قصيدة خاطب بها الوزير ابن الربيع فى عهد الأمين "١٩٣-١٩٨".
أنت با ابن الربيع ألزمتنى النسك وعودتنيه والخير عادة فارعوى باطلى وأقصر حبلى وتبدلت عفة وزهادة المسابيح فى ذراعى والمصحف فى لبتى مكان القلادة وهو أقدم ذكر للسبحة بالشعر العربى فيما يعلم.
ولما شاعت بين المسلمين استعملها بكثرة العامة من المشتغلين بالعبادة، ولم يستحسنها علماؤهم، ولذلك لما رؤيت فى القرن الثالث الهجرى فى يد "الجنيد" اعترض عليه وقيل له: أنت مع شرفك تأخذ بيدك سبحة؟ فقال: طريق وصلت به إلى ربى لا أفارقه " الرسالة القشيرية ".
وذكر أبو القاسم الطبرى فى كتاب "كرامات الأولياء" أن أبا مسلم الخولانى كانت له سبحة، وأن كثيرا من الشيوخ كانت لهم سبح يسبحون بها، وذكروا فى فوائدها أنها تذكر الإنسان بالله كلما رآها أو حملها، وتساعده على دوام الذكر، وعلى ضبط العدد.
وبقى استعمالها بين المسلمين بين راض،عنها وكاره لها، حتى كان القرن الخامس فانتشرت بين النساء المتعبدات، إلى أن عمت بين الناس جميعا، ويحتفظ فى أضرحة بعض الأولياء بسبحهم التى ينتظم بعضها ألف حبة ذات حجم كبير.
ولم يصح فى مدحها خبر عن النبى صلى الله عليه وسلم كالذى أخرجه الديلمى مرفوعا "نعم المذكر السبحة" كما لا يصح ما نقل عن الحسن البصرى أنه، عندما قال له: أنت مع السبحة مع حسن عبادتك؟ قال:
هذا شيء استعملناه فى البدايات ما كنا لنتركه فى النهايات.
ولم ينقل عن أحد من السلف ولا من الخلف المنع من عد الذكر بالسبحة، ولا يعدون ذلك مكروها، وقد سئل بعضهم، وهو يعد بالتسبيح: أتعد على اللَّه؟ فقال: لا، ولكن أعد له.
وجعل حبات السبحة اليوم مائة أو ثلاثا وثلاثين راجع إلى الحديث الصحيح فى ختم الصلاة.
وبناء على ما سبق ذكره يكون التسبيح بغير عقد الأصابع مشروعا، لكن أيهما أفضل؟ يقول السيوطى: رأيت فى كتاب "تحفه العباد " ومصنفه متأخر عاصر الجلال البلقينى فصلا حسنا فى السبحة قال فيه ما نصه: قال بعض العلماء: عقد التسبيح بالأنامل أفضل من السبحة لحديث ابن عمرو، لكن يقال: إن المسبح إن أمن الغلط كان عقده بالأنامل أميل وإلا فالسبحة أولى. والسنة أن يكون باليمين كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم وجاء ذلك فى رواية لأبى داود وغيره.
"انظر: الحاوى للفتاوى للسيوطى رسالة "المنحة فى السبحة" ونيل الأوطار للشوكانى".
هذا، وقد تفنن الناس اليوم فى صنع السبحة من حيث المادة والحجم والشكل واللون والزخرفة وعدد الحبات، وعنى باقتنائها كبار الناس سواء أكان ذلك للتسبيح أم للهواية أم لغرض آخر، ولا يمكننا أن نتدخل فى الحكم على ذلك، فالله أعلم بنياتهم ولكل امرىء ما نوى.
وأقول: إذا كان النبى صلى الله عليه وسلم قال: "واعقدن بالأنامل فانهن مسئولات مستنطقات " فإن حبات المسبحة لا تحركها فى يد الإنسان إلا الأنامل، وهى ستسأل وتستنطق عند الله لتشهد أنه كان يسبح بها، ولا يجوز التوسع فى إطلاق اسم البدعة على كل ما لم يكن معروفا فى أيام الرسول ولا أن يجر الخلاف فى السبحة إلى جدل عقيم قد يضر، والأهم من ذلك هو الإخلاص فى الذكر ولا تضر بعد ذلك وسيلته، والله ينظر إلى القلوب كما صح فى الحديث