[التجسس]
المفتي
عطية صقر.
مايو ١٩٩٧
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
يقول الله تعالى {ولا تجسسوا} فكيف نوفق بين النهى عن التجسس وما فعله النبى صلى الله عليه وسلم من إرسال من يتجسس على العدو لمعرفة أخباره؟ وما هو عقاب الجاسوس؟
الجواب
التجسس مأخوذ من الجس، وهو فى الأصل مَسُّ العرق وتعرُّف نبضه للحكم به على الصحة والسقم، كما فى مفردات الأصفهانى، ومنه اشتق الجاسوس، فالتجسس محاولة العلم بالشىء بطريقة سرية لا يفطن لها، أو البحث عما يكتم من الأمور، وقيل: هو والتحسس - بالحاء- بمعنى واحد، وقيل: إن الثانى هو طلب الأخبار والبحث عنها، وقيل: هو تطلبها لنفسه، أما التجسس فهو طلبها لغيره، وقيل غير ذلك.
والتجسس على المسلم منهى عنه لأن فيه كشفا للعورات، ولذلك أجاز النبى صلى الله عليه وسلم أن تفقأ عين من نظر إلى بيت غيره من نافذة أو غيرها ليتعرف ما بداخله بغير إذنهم كما رواه البخارى ومسلم. وقال "يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإِيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإن من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته" رواه أبو داود بإسناد حسن وقال "من استمع خبر قوم وهم له كارهون صُبَّ له في أذنه الآنك يوم القيامة" رواه البخاري، والآنك هو الرصاص المذاب وقد أجازه بعض العلماء إذا كان فيه مصلحة مع جريمة ستقع، وهو أليق بالمسئولين عن الأمن إذا كانت الجريمة فيها ضرر لغير من يرتكبها، أما لو استتر بها وضررها يعود عليه فقط فلا يجوز التجسس، وحملت عليه بعض أحداث في أيام عمر رضي الله عنه ذكرها القرطبي في تفسيره "١٦ ص ٣٣٣". أما التجسس على العدو للحذر منه والاستعداد لمقاومته فمشروع، روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل بَسْبَسة بن عمرو الأنصاري عينا لتقصي أنباء عير أبي سفيان فى غزوة بدر، وقد ذهب صلى الله عليه وسلم بنفسه ومعه أبو بكر إلى بدر وقابلا رجلا وسألاه عن أخبار قريش وعرفا منه مكانهم، ولما كان الرجل قد شرط عليهما أن يعرف من هما قال النبي صلى الله عليه وسلم أخيرا "نحن من ماء" ثم انصرفا عنه، وحار الرجل في معرفة هذا النسب، ولعل الرسول صلى الله عليه وسلم يقصد أنهما خلقا من ماء. كما بعث عليا والزبير وسعد بن أبي وقاص مع جماعة إلى بدر لهذا الغرض، وقبل خروجه إلى بدر أرسل طلحة بن عبيد الله وآخر لذلك، وكانت سرية عبد الله بن جحش إلى نخلة -بين مكة والطائف- فى رجب من السنة الثانية للهجرة لاستطلاع أخبار قريش، وفي سنة أربع أو خمس من الهجرة بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بريدة بن الخصيب الأسلمي ليعرف أخبار بني المصطلق عند ماء يسمى "المريسيع".
وإذا كان التجسس على العدو مشروعًا، فإن التجسس له ونقل أخبار المسلمين إليه محظور، وحادث حاطب بن أبي بلتعة معروف، حيث أرسل خطابا إلى أهل مكة يخبرهم فيه بأن الرسول صلى الله عليه وسلم سيغزوهم وأعطاه لامرأة لحق بها في الطريق فأخذه منها من أرسلهم الرسول لذلك، وكان ضبطه في مكان يسمى "روضة خاخ " ولما سئل حاطب عن ذلك لم يكذب وأقر بأنه لم يفعله كفرا ولا رِدة، ولكن لمصلحة شخصية له، ولما أراد عمر قتله قال له الرسول عليه الصلاة والسلام "إنه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" ونزل في ذلك أول سورة الممتحنة.
الخبر طويل في كتب السيرة والتفسير مروى بطريق صحيح وجاء فى بعض رواياته أن الرسول أمر بضرب عنق المرأة حاملة الكتاب إن لم تدفعه لهم.
وهنا تحدث الفقهاء عن عقوبة الجاسوس، فقالوا: إن كان كافرا يقتل، في حال الحرب، وكذلك في حال السلم إن كان هناك عهد لأنه نقض للعهد، وإن كان مسلما أو ذميًّا يعاقبان تعزيرًا، إلا إن تظاهرا على الإسلام فيقتلان. وقال مالك بقتله مطلقا لإضراره بالمسلمين وسعيه بالفساد في الأرض، وهو حد الحرابة "تفسير القرطبي "ج ١٨ ص ٥٠ - ٥٣ ".
وجاء فى زاد المعاد لابن القيم "ج ٢ ص ١٧٠" تعليقا على ذلك قوله: فيه جواز قتل الجاسوس وإن كان مسلما، والعفو عن حاطب لأن الله قد غفر لأهل بدر وهو منهم، فمن لم يكن كذلك جاز قتله، وهو مذهب مالك وأحد الوجهين في مذهب أحمد، وقال الشافعى وأبو حنيفة لا يقتل، وهو ظاهر مذهب أحمد، والفريقان يحتجان بقصة حاطب. والصحيح أن قتله راجع إلى رأى الإمام فإن رأى فى قتله مصلحة للمسلمين قتله، وإن كان بقاؤه أصلح استبقاه اهـ.
وهو رأى معقول يرجع فيه لتقدير المسئولين ومصلحة الأمة، وقتله إما حد وإما تعزير، وآية المحاربة والإفساد في الأرض فيها متسع للآراء.
هذا، ورجال المباحث والمخابرات المكلفون بالبحث عن المجرمين، وتتبع أخبار المتهمين أو المشبوهين تتحكم في الحكم عليهم نياتهم فالأعمال بالنيات، كما يتحكم فيه التزام الحق والعدل، والبعد عن الشبهات والإغراءات، والعلم بأن الله رقيب حسيب، وأن الآخرة خير وأبقى.
تنبيه: الطابور الخامس:
أول ما نشأ هذا التعبير أثناء الحرب الأهلية الإسبانية التي نشبت عام ١٩٣٦ م واستمر ثلاث سنوات، وأول من أطلقه الجنرال الإسباني "كوبيو دنيلانو" وكان أحد قوات الثوار، وكان يتحدث عن قواته الزاحفة على مدريد، وكانت تتألف من أربعة طوابير من الثوار. ثم قال: إن هناك طابورًا خامسًا يعمل مع الثوار في قلب مدريد، ويقصد به مؤيدي الثورة من أهالى مدريد.
ثم أصبح هذا الوصف شائعا فى الجاسوسية وعمليات التخريب التى تتم داخل البلد بوساطة أعوان أعدائها، وزاد انتشاره بعد الحرب العالمية الثانية سنة ١٩٣٩ م واعتمد هتلر على كثير من الجواسيس داخل البلاد التى يحاربها، ثم استعمل "الطابور الخامس" لمروجى الإِشاعات ومنظمى الحروب النفسية، "اليقظة ٩ / ١٥ / ١٩٧٨". هذا، وقد ألف "كرايم كانت" كتابا فى الجاسوسية جاء فيه أنها فَنٌّ قديم معناه:
فن الحصول على معلومات من الأعداء بأسلوب سرى للاستفادة منها فى الحروب، وقد استخدمها المصريون حوالى سنة ٣٦٠٠ قبل الميلاد على يد القائد "ثيوت" وجاء فى التوراة أن موسى عليه السلام أرسل جواسيس إلى أرض كنعان، عاد منهم اثنان بمعلومات رفضها الإِسرائيليون فعاقبهم الله بالتيه أربعين عاما. لعل مما يشير إلى ذلك قولهم {إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون} المائدة: ٢٢ واستغلها اليونان وأشهر أساطيرهم فيها " حصان طروادة" ثم تطورت وتبادلت الدول السفراء - فهم إلى جانب سفارتهم جواسيس لدولهم، واعتمد عليهم يوليوس قيصر سنة ٥٥ ق. م فى غزواته.
وفى العصور الوسطى كانت هناك جواسيس، وذكر من أشهرهم فى إنجلترا فى عهد إدوارد الأول "السير توماس توبر فيل" الذى أعدم لتجسسه عليها بعد أن تجسس لها ضد فرنسا. وتميزت العصور الوسطى بوجود جهازين، أحدهما للتجسس والثانى لمكافحته.
وأول بوليس سرى كان فى عهد الملكة الإنجليزية إليزابيث الأولى.
بفضل "فرنسيس والسينغهام" الذى كان يستخدم الشفرة فى تجسسه