للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[أحوال النبى عيسى عليه السلام]

المفتي

جاد الحق على جاد الحق.

جمادى الأولى ١٣٩٩ هجرية - ٢٤ أبريل ١٩٧٩ م

المبادئ

١ - رفع الله سبحانه وتعالى عيسى عليه السلام من بين أعدائه فلم يقتلوه ولم يصلبوه كما يزعم من يزعم الآن وقد التبس أمره على خصومه وقت القبض عليه بالاشتباه الذى كان سببا فى نجاته منهم.

٢ - ينبغى الوقوف عند حد المسكوت عن بيانه فى آيات القرآن الكريم.

٣ - نفى القتل والصلب عن عيسى عليه السلام وإثبات رفعه لا يجوز جحوده ومن جحده كان مرتدا.

٤ - جمهور أهل العلم على أن عيسى عليه السلام حى عند الله تعالى حياة لم تثبت كيفيتها ولا طبيعتها.

٥ - العقيدة الإسلامية إنما تثبت بالأدلة القطعية الثبوت والدلالة من القرآن والسنة ونزول عيسى عليه السلام لم يثبت بدليل قطعى الثبوت والدلالة من القرآن والسنة فمن حجد ذلك لا يكون به مرتدا.

٦ - ما ورد من الأحاديث الدالة على نزول عيسى عليه السلام وأن ذلك من علامات الساعة تقبلها جمهور العلماء بقبول حسن.

٧ - القول بموت عيسى عليه السلام فعلا من الاعتقاد برفعه إلى الله سبحانه وتعالى وعدم قتله وصلبه لا يقتضى ردة صاحب هذا القول.

٨ - ليس هناك ما يؤكد أن عيسى عليه السلام قد نشر دعوته فى الهند وأفغانستان والسند وإيران، وإنما انتشر ذلك بفعل اتباعه وجهدهم.

٩ - الترجمة الحرفية للقرآن الكريم غير جائزة شرعا

السؤال

بالكتاب الوارد من / عميد معهد علوم الشريعة الإسلامية - بجنوب أفريقيا - بتاريخ ١٠ من ذى القعدة سنة ١٣٩٨ هجرية الموافق ٣/١٠/٧٨ م والمقيد برقم ٢٨٤/١٩٧٨ المطلوب به فتوى عن أحوال النبى عيسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلوات وأتم التسليم - والمحدد به الأسئلة التالية: ١ - ما هو حال النبى عيسى وفق الكتاب والسنة الشريفة الثابتة.

٢ - ما حكم من قال ان عيسى قد مات.

٣ - هل توجد أية أدلة تدل على أن عيسى قد نشر دعوته لأناس فى الهند وأفغانستان والسند وإيران.

٤ - لماذا لم تطبع ترجمة القرآن الكريم فى دولة إسلامية إذ أن الترجمة التى نشرها أساتذة مسلمون من الهند بينهم من يدعى / محمد أسد - جاء فيها أن النبى عيسى عليه السلام مات وأن اعتقاد المسلمين فى عودته خطأ

الجواب

إن القرآن الكريم قد أخبر بنهاية أمر عيسى السلام مع قومه فلا ثلاث سور على الوجه التالى: ١ - قال الله تعالى فى سورة آل عمران {فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصارى إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون.

ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين.

ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين.

إذ قال الله يا عيسى إنى متوفيك ورافعك إلى ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلى مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون} آل عمران ٥٢ - ٥٥.

٢ - قال الله تعالى فى سورة النساء {وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفى شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا.

بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما} النساء ١٥٧، ١٥٨.

٣ - قال الله تعالى فى سورة المائدة {وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذونى وأمى إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لى أن أقول ما ليس لى بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما فى نفسى ولا أعلم ما فى نفسك إنك أنت علام الغيوب.

ما قلت لهم إلا ما أمرتنى به أن اعبدوا الله ربى وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتنى كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شىء شهيد} المائدة ١١٦، ١١٧، صدق الله العظيم.

تأويل قوله تعالى {متوفيك} وأصل مادة توفى فى لغة العرب.

لفظ {إنى متوفيك} فى آيات سورة آل عمران ولفظ {فلما توفيتنى} فى آيات سورة المائدة لامتبادر منهما أن عيسى عليه السلام قد مات لن كلمة (توفى) وردت فى القرآن الكريم بمعنى الموت، حتى صار هذا المعنى هو المتبادر منها عند النطق بها، كما يأتى لفظ (توفيت) فى اللغة بمعنى القبض والأخذ، وعلى هذا يكون معنى {إنى متوفيك} ، {فلما توفيتنى} إنى قابضك من الأرض، كما يقال توفيت من فلان ما لى عليه بمعنى قبضته واستوفيته - ويأتى لفظ (يتوفى) بمعنى النوم كما فى قوله تعالى فى سورة الأنعام فى الآية ٦٠ (وهو الذى يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم غليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم بعملون) .

ففى هذه الآية جاء لفظ (يتوفى) ، مقصودا به النوم، كما استعمل لفظ (يبعث) - الذى يشير عادة إلى البعث فى الحياة الأخرى بعد الموت فى الدنيا - بمعنى الأيقاظ من النوم وعلى هذا فإنه يمكن أن يقصد بلفظ (إنى متوفيك) و (فلما توفيتنى) معنى النوم أيضا بدلا من الوفاة بمعنى الموت السابق ذكره.

تأويل قول الله {ورافعك إلى} {بل رفعه الله إليه} فلفظ {ورافعك إلى} فى آيات آل عمران و {بل رفعه الله إليه} فى آيات سورة النساء فسره جمهور المفسرين على أن الله رفع عيسى عليه السلام إلى السماء - واللفظ الأخير {بل رفعه الله إليه} اخبار عن تحقيق ما وعد الله به فى آيات آل عمران بقوله تعالى {إنى متوفيك ورافعك إلى} وقد جاء لفظ الرفع فى القرآن الكريم بالرفع المادى المعنى الذى يدل على التشريف والتكريم، وإذا كان القول بالرفع المادى هو المقبول لأن به نجاة عيسى عليه السلام من أعدائه فعلا روحا وجسدا لزم عليه أن يسبق هذا الرفع المادى موته حيقيقة أو حكما بالنوم، لأن فى رفعه حيا بحياته العادية فى الدنيا تعذيبا له لما علم الآن بالتجربة العلمية من أن الإنسان كلما صعد فى الجو إلى أعلى ضاق صدره لقلة الاكسوجين فى الهواء كما يقول العلماء التجريبيون الآن.

ولعل الآية الكريمة فى سورة الأنعام تشير إلى صدق هذه التجربة العلمية (يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد فى السماء) من الآية رقم ١٢٥.

فجماع ما تقدم يشير إلى أن الله سبحانه وتعالى رفع عيسى عليه السلام وأنجاه من القتل والصلب، يعنى أنه توفاه وأماته إما حقيقة أو حكما بالنوم ليعفيه ويجنبه بهذه التوفية أقسى العذاب الذى يتعرض له الجسد الإنسانى الحى لو صعد بحالته العادية فى الدنيا إلى السماء، أو أنه رفع حيا وما زال كذلك حياة لا تدرى طبيعتها.

تأويل قوله تعالى {ولكن شبه لهم} فلفظ {ولكن شبه لهم} فى آيات سورة النساء السابق تلاوتها اختلف المفسرون فى صفة التشبيه وكيفيته - على ما حكاه الطبرى فى تفسيره - فقال بعضهم إن اليهود حين أحاطوا بعيسى عليه السلام مع أصحابه لم يكونوا يعرفونه بشخصه وأشكل عليهم استخراجه بذاته من بين من كانوا معه لأن الله حولهم جيمعا إلى شبه عيسى وصورته، ولذلك ظنوا أن من قتلوه هو عيسى وليس كذلك.

وقال آخرون ان شبه عيسى ألقى على أحد أصحباه فأخذه اليهود وقتلوه.

ويأتى لفظ (شبه) فى اللغة العربية بمعنى لبس الأمر من قولهم اشتبهت الأمور وتشابهت التبست فلم تتميز ولم تظهر ومنه اشتبهت القبلة ونحوها أى لم تتبين جهتها - ومعنى (ولكن شبه لهم) على هذا أن الأمر بشأن المصلوب لبس على من قبضوا عليه وحاكموه ومن صلبوه، وأن الذى جعل الأمر يلتبس عليهم أن الله قد خلص المسيح عليه السلام ورفعه إليه دون أن يدرك ذلك من حضروا للقبض عليه بعد أن التبس عليهم شخصه وذاته فواقع المر قد لبس عليهم أو التبس واختلط فلم يدركوا ذات المسيح عليه السلام.

ويمكن أن يقال أيضا إن قوله تعالى {ولكن شبه لهم} معناه أى وقعت الشبهة لهم فظنوا أنهم قتلوه مع أنهم قتلوا غيره ظانين أنه هو.

وقد كذب الله سبحانه وتعالى وهمهم بقوله {وما قتلوه وما صلبوه} كما زعموا ولكن وقعت لهم شبهة فى ذاته فقتلوا وصلبوا غيره.

ومن هذا العرض لما تحمله هذه الآيات فى شأن وفاة عيسى عليه السلام وهل كانت وفاة موت أو وفاة نوم أو وفاة قبض ونقل ورفع وما يحتمله قوله تعالى {ورافعك} وقوله {بل رفعه الله إليه} من الرفع المادى بمعنى أنه نقله بذاته وجسمه من بين من أرادوا القبض عليه وقتله فلم يمكنهم منه أو أن الرفع أدبى ومعنوى رفع مكانة وتشريف وما قيل فى قوله تعالى {ولكن شبه لهم} من هذا يظهر اختلاف العلماء فى شأن عيسى عليه السلام.

المختار من هذه التأويلات والذى اختاره أن الله سبحانه وتعالى قد رفع عيسى عليه السلام من بين أعدائه ولم يمكنهم من القبض عليه فلم يقتلوه ولم يصلبوه كما يزعم أتباعه الآن وأن أمره التبس واشتبه على خصومه بأى طريق من طرق التلبس بالاشتباه التى أرادها الله سبحانه وأنجاه الله بها ولم تفصح الآيات المتلوة آنفا عن هذا الطريق بل جاء الفعل (شبه) بالبناء للمجهول الأم الذى كثرت فى بيانه واستبانته الأفهام، ومن الحكمة وحسن التأويل لآيات القرآن الكريم الوقوف عند ما سكتت عن بيانه والكف عن استكشاف مالا طائل وراءه لأنه غير ثابت فطعا - إذ المر الذى تفيده قطعا تلك الآيات أن الله تعالى لم يمكن اليهود من قتل عيسى عليه السلام وصلبه ولكن شبه لهم والتبس أمره عليهم فلم يعرفوا ذاته وقطع القرآن فى رفعه من بين أظهرهم واستخلاصه من أيديهم بقوله تعالى {وما قتلوه يقينا.

بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما} ما يجب الإيمان به وبذلك تكون العقيدة الصحيحة للمسلم فى هذا هو ما قطعت به هذه الآية من نفى قتل عيسى عليه السلام وصلبه ومن إثبات رفعه إلى الله تعالى، فهذا القدر لا يجوز لمسلم جحوده، ويخرج عن الإسلام من اعتقد ما يقول المسيحيون الآن من قتل ذاات هذا النبى وصلبه.

أما رفعه عليه السلام حيا أو ميتا أو نائما إن كان حيا وما مكانه وما كيفية حياته وهيئتها فان هذا مما اختلف فى شأنه العماء إذ لم تفده آيات القرآن الكريم على وجه قطعى الدلالة.

وجمهور أهل العلم على أن عيسى عليه السلام حى عند الله تعالى حياة لم تثبت كيفيتها ولا طبيعتها مستدلين بما سنورده فيما يلى عن واقعة نزوله وعودته إلى الأرض.

نزول عيسى إلى الأرض يدل مجموع الأحاديث المروية فى كتب السنة على أن عيسى عليه السلام سينزل إلى الأرض داعيا بالإسلام وحاكما بشريعته ومتبعا رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم.

من هذا ما أخرجه البخارى فى صحيحه فى كتاب الأنبياء عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (والذى نفسى بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا فليكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية (أى يلغيها ولا يقبلها من أحد من أهل الأديان الأخرى إذ لا يقبل منهم غير الإسلام دينا) ويفيض المال حتى لا يقبله أحد، حتى تكون السجدة الواحدة خيرا من الدنيا وما فيها) ثم قال أبو هريرة أقرءوا إن شئتم قول الله تعالى {وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا} النساء ١٥٩، وقد رواه مسلم فى صحيحه هكذا عن أبى هريرة وزاد أنه (يقتل الدجال) ما حكم من جحد نزول عيسى هذا الحديث الشريف وأمثاله ليس من الأدلة القطيعة الثبوت والدلالة لأنه ليس من المتواتر فلا يفيد قطعا نزول عيسى عليه السلام للأرض.

كذلك لم تفد آيات القرآن الكريم نزوله على وجه قاطع، وإن كانت الآيتان ١٥٩ من سورة النساء، ٦١ من سورة الزخرف تحتملان الدلالة على هذا فى أحد التأويلات الكثيرة لكل منهما والتى أوردها الكبرى فى تفسيره.

ولما كانت أسس العقيدة الإسلامية إنما تثبت بالدليل القطعى الثبوت والدلالة من القرآن والسنة.

فإن من جحد نزول عيسى عليه السلام وعودته إلى الأرض لا يخرج عن الإسلام ولا يعتبر كافرا لأن ماحجده غير ثابت بدليل قطعى من القرآن أو السنة.

ومع هذا فقد تقبل جمهور أهل العلم منذ حدث رواة هذا الحديث به وبأمثاله من الصحباه رضوان الله عليهم ومنذ أن دونت السنة الشريفة تقبلوا الأحاديث الشريفة الدلالة على نزول عيسى عليه السلام وعودته إلى الأرض قبولا حسنا وآمنوا بها وعدوا نزوله من أشراط الساعة وعلاماتها الكبرى.

وأختار طريق هؤلاء والاقتداء بهم باعتبار ذلك خبرا عن المعصوم صلوات الله وسلامه عليه وهو لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحى يوحى مع عدم تكفير من يجحد نزول عيسى عليه السلام ما حكم من قال بموت عيسى ما كانت عبارة القرآن الكريم فى قوله تعالى {إنى متوفيك} فى آيات سورة آل عمران {فلما توفيتنى} فى سورة المائدة تحتمل الموت والنوم والاستيفاء والقبض على ما سبق بيانه فإنه مع هذه الاحتمالات تكون دلالة الآيات على حياته عليه السلام الآن غير قاطعة، فمن قال من المسلمين بموته فعلا يكون متأولا لما يحتمل التأويل فلا يخرج بهذا القول من الإسلام ولا يعتبر كافرا ما دام معتقدا ومقرا بأن الله سبحانه وجلت قدرته قد رفعه إليه من بين أعدائه ولم يمكنهم من قتله وصلبه امتثالا وتصديقا لقوله تعالى {وما قتلوه يقينا.

بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما} هل نشر عيسى دعوته بالهند أما أن عيسى عليه السلام قد نشر دعوته فى الهند وأفغانستان والسند وإيران فليس هناك ما يؤكد هذا الزعم وإنما انتشرت بفعل أتباعه وجهدهم كما هو ملموس الآن من انتشار جماعات التبشير التى تلبس ثوب الإصلاح الاجتماعى والتطبيب العلاجى أو تفتح المدارس للتعليم فى المجتعمات التى تغلب فيها الأمية.

هل تجوز ترجمة القرآن الكريم أما عن ترجمة القرآن الكريم فإن الترجمة الحرفية لآيات القرآن الكريم غير جائزة شرعا، وإنما تجوز ترجمة المعنى والتفسير، فإذا وجدت ترجمة لفظية للقرآن فيجب ألا يعتمد عليها ولا تعتبر قرآنا.

وانا نأمل أن تقوم الجهات المعنية بترجمة تفسير مختار للقرآن الكريم بدلا من الترجمة المشار إليها فى السؤال وغيرها من الترجمات المنتشرة فى الغرب والشرق بيد المستشرقين أو بعض المسلمين الذين لا يحسنون صنعا.

والله الموفق والهادى إلى الصراط المستقيم وهو سبحانه وتعالى أعلم

<<  <  ج: ص:  >  >>