نرى بعض المتدينين يحرصون على تقصير ملابسهم بشكل لافت للنظر يخالف ما درج عليه الناس، ويزعمون أن من لا يقصر مثلهم فقد عصى الله، فهل هذا صحيح؟
الجواب
نبهنا أكثر من مرة على وجوب التفقة فى الدين والتفرقة بين الواجب والمندوب وبين الحرام والمكروه، حتى لا يكون فى التطبيق تطرف يضر صاحبه ويضر غيره ويسىء إلى الدين نفسه.
لقد روى البخارى تعليقا أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " كلوا واشربوا والبسوا وتصدَّقوا فى إسراف ولا مخيلة" وقال ابن عباس كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك اثنتان، سرف أو مخيلة. يدل هذا على أن الممنوع هو ما كان فيه إسراف وما قصد به الخيلاء وإذا انتفى هذان الأمران فلا حرج، وقد ورد فى ذلك عدة أحاديث منها " ما أسفل الكعبين من الإزار ففى النار" رواه البخارى وغيره والإزار هو ما يستر أسفل البدن، ومنه البنطلون والجلباب. " من جر إزاره بطرا لم ينظر الله إليه يوم القيامة" رواه مالك وأبو داود والنسائى وابن ماجه " من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة" فقال أبو بكر الصديق رضى الله عنه: يا رسول الله إن إزارى يسترخى إلا أن أتعاهده، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنك لست ممن يفعله خيلاء"رواه البخارى ومسلم وغيرهما. والخيلاء هو الكبر والعجب. والمخيلة من الاختيال وهو الكبر واستحقار الناس.
وفى رواية لمسلم وغيره عن الثلاثة الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم إنهم هم المسبل إزاره والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب.
والمسبل هو الذى يطول ثوبه ويرسله إلى الأرض كأنه يفعل ذلك تجبرا واختيالا. كما فسره الحافظ المنذرى فى كتابه " الترغيب والترهيب ".
وحديث " ما أسفل من الكعبين من الإزار فى النار" ليس عاما للرجال والنساء فقد فهمت أم سلمة رضى الله عنها أنه عام وقالت للنبى صلى الله عليه وسلم فكيف تصنع النساء بذيولهن؟ فقال "يرخين شبرا" فقالت: إذًا تنكشف أقدامهن، قال " فيرخينه ذراعا لا يزدن عليه " أخرجه النسائى والترمذى وصححه. والذراع شبران بشبر اليد المعتدلة.
والخلاصة أن للرجال حالين، حال استحباب وهو أن يقتصر بالإزار على نصف الساق، وحال جواز وهو إلى الكعبين. وكذلك للنساء حالان، حال استحباب وهو ما يزيد على ما هو جائز للرجال بقدر الشبر، وحال جواز بقدر ذراع. وأن البطر والتبختر مذموم ولو لمن شمر ثوبه، ومن قصد بالملبوس الحسن إظهار نعمة الله عليه، مستحضرا لها شاكرا عليها غير محتقر لمن ليس له مثله لا يضره ما لبس من المباحات ولو كان فى غاية النفاسة، ففى صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا يدخل الجنة من كان فى قلبه ذرة من كبر" فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة، فقال " إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس "، والغمط معناه الاحتقار.
والحديث الذى أخرجه الطبرى " إن الرجل يعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك صاحبه " محمول على من أحب ذلك ليتعظم به على صاحبه. لا من أجب ذلك ابتهاجا بنعمة الله. فقد اخرج الترمذى وحسنه " إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده " وأخرج النسائى وأبو داود وصححه الحاكم أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لرجل رآه رث الثياب " إذا أتاك الله مالا فلير أثره عليه " أى بأن يلبس ثيابا تليق بحاله من النفاسة والنظافة ليعرفه المحتاجون إلى الطلب منه، مع مراعاة القصد وترك الإسراف.
هذا وقد نقل القاضى عياض عن العلماء كراهة كل ما زاد على العادة وعلى المعتاد فى اللباس من الطول والسعة، والثوب الطويل الذى ليس فيه خيلاء يكره إذا لم يأمن لابسه من تعلق النجاسة به، فقد أخرج الترمذى عن عبيد بن خالد أنه قال: كنت أمشى وعلىَّ برد أجره، فقال لى رجل " ارفع ثوبك فإنه أنقى وأبقى" فنظرت فإذا هو النبى صلى الله عليه وسلم، فقلت: إنما هى بردة ملحاء -أى فيها خطوط سود وبيض -فقال "أما لك فىَّ أسوة"؟ قال: فنظرت فإذا إزاره إلى أنصاف ساقيه " فتح البارى ج ١٠ ص ٢٦٤ - ٢٧٥ "