[البوسنة والهرسك]
المفتي
عطية صقر.
مايو ١٩٩٧
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
كيف يسكت المسلمون على ما يجرى فى البوسنة والهرسك من اضطهاد للمسلمين ومحاولة تصفيتهم؟
الجواب
من المعروف أن كراهية أوروبا بالذات للمسلمين كراهية تقليدية، والتاريخ لا ينسى طردهم من الأندلس التى كان لها الفضل فى نهضة أوروبا كما شهد المنصفون كما لا ينسى الحروب الصليبية ضد الإسلام والشرق، ولا ينسى حملات الشيوعيين وغيرهم ضد الأديان بوجه عام، وضد المسلمين بوجه خاص، ولا ينسى الاستعمار الذى تولى كبره دول أوروبا وأعلن كبار قادتها أن العقبة الكؤود فى طريق الاستعمار هو الإسلام بقراَنه وأزهره القائم على عراقة الدين ونشره فى كل مكان. والدول فى شبه جزيرة البلقان بالذات لا تنسى عظمة الخلافة العثمانية والوصول بفتوحاتها إلى حدود النمسا، ووجود كثير من المسلمين فى هذه المنطقة، ومن هذه العقدة كانت معاملتها للمسلمين فهى تريد تصفية قومياتهم ودولهم وطردهم من أوطانهم التى عاشوا فيها عدة قرون.
والعالم كله يشهد تواطؤ أوروبا وغيرها على المسلمين فى البوسنة والهرسك الذين يقاومون الأعداء للاحتفاظ بشخصيتهم الدينية وللاحتفاظ بحقوقهم التى تكفلها الأديان والأعراف والقوانين. وقد طال الأمد ولم تحل مشكلتهم، وهنا قامت الصيحات والتهبت المشاعر واحتدت العواطف من اجل مساعدتهم، وفى غمرة هذا الحماس الذى يؤكد اهتمام المسلمين بما يحدث لإخوانهم قد يغفل العقل وتنسى العقبات الموضوعة فى الطريق وتقدم اقتراحات لو نفذت لازداد الخطر لا على المستغيثين وحدهم بل أيضا على من يغيثون.
إن هناك معاهدات واتفاقات دولية تمنع تدخل أية دولة فى شئون دولة أخرى بدون موافقتها، بل بدون موافقة الأمم المتحدة، وبخاصة إذا كان التدخل عسكريا.
وإذا كان هذا التنظيم الدولى أمرا جديدا فإن الإسلام نفسه يقره تحت مظلة العدل والسلام واحترام الحقوق الإنسانية، وبيان ذلك:
أن الإسلام عندما أمر بهجرة المسلمين من مكة إلى المدينة حفاظا على عقيدتهم نعى بشدة على المتخلفين عن الهجرة بدون عذر، فقال الله تعالى {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمى أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين فى الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا} النساء: ٩٧، وبيَّن أن الولاية قد انقطعت بين من هاجروا ومن لم يهاجروا، لكن عند الاستعانة بهم تجب المعونة بشرط ألا يكون فيها نقض لمعاهدة مع الطرف الذى ألجأ غير المهاجرين إلى الاستغاثة بالمهاجرين قال تعالى {إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم فى سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شىء حتى يهاجروا. وإن استنصروكم فى الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير} الأنفال: ٧٢.
وقد حافظ الرسول صلى الله عليه وسلم على الوفاء بالعهود مع العدو فى هذه الصورة وغيرها فقد كان فى صلح الحديبية بين الرسول والمشركين من أهل مكة أن من أسلم منهم والتجأ إلى الرسول لا يقبله بل يرده إلى أهله، وأن من ارتد من المسلمين والتجأ إلى مكة لا يرد إلى المدينة. وبغض النظر عما أبداه بعض المسلمين نحو هذا الشرط مضى الرسول فى تنفيذه، فعندما أسلم فى مكة أبو جندل حبسه وقيده والده سهيل بن عمرو، فهرب من حبسه والتجأ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو ما يزال فى الحديبية، فلم يقبله ولكن قال له "اصبر واحتسب فإنا لا نغدر، وإن الله جاعل لك فرجا ومخرجا ".
وعندما خرج أبو بصير من مكة مسلما وتوجه إلى المدينة لم يقبله الرسول صلى الله عليه وسلم وبين له أن الدين لا يصلح فيه الغدر كما فعل مع أبى جندل، ولم يرجع إلى مكة وأفلت ممن كانوا يتعقبونه، ثم رجا من الرسول أن يقبله فأبى وقال "ويل أمه مسعر حرب لو كان معه أحد ينصره " فكوَّن مع أبى جندل وغيره من المسلمين الفارين من مكة جماعة اعترضت طريق القوافل التجارية لأهل مكة، فألحت قريش على النبى صلى الله عليه وسلم ليقبلهم فقبلهم.
[انظر الزرقانى على المواهب اللدنية "ج ٢ ص ٢٠٢" والمغنى لابن قدامة "ج ١٠ ص ٥٢٥ "] .
وإذا كانت النصرة بالتدخل العسكرى والخروج على الاتفاقات الدولية صعبا بالنسبة للمسلمين فى البوسنة والهرسك وغيرهم فإن النصرة بالوسائل الأخرى المتاحة واجبة وذلك بمثل الإمداد بالغذاء والكساء والسلاح والدواء وإيواء المهاجرين وعلاج المرضى والنشاط الدبلوماسى وغير ذلك من الوسائل.
يقول القرطبى فى تفسيره "ج ٨ ص ٥٧" ما نصه: قوله تعالى {وإن استنصروكم فى الدين} يريد: إن دعوا هؤلاء المؤمنون الذين لم يهاجروا من ارض الحرب عونكم بنفير-جيش أو مال لاستنقاذهم فأعينوهم، فذلك فرض عليكم فلا تخذلوهم،إلا لم أن يستنصروكم على قوم كفار بينكم وبينهم ميثاق فلا تنصروهم عليهم ولا تنقضوا العهد حتى تتم مدته.
ابن العربى - أى قال ابن العربى -: إلا أن يكونوا "أسراء" مستضعفين فإن الولاية معهم قائمة والنصرة لهم واجبة حتى لا تبقى منا عين تطرف حتى تخرج إلى استنقاذهم إن كان عددنا يحتمل ذلك، أو نبذل جميع أموالنا فى استخراجهم حتى لا يبقى لأحد درهم، كذلك قال مالك وجميع العلماء، فإنا لله وإنا إليه راجعون على ما حل بالخلق فى تركهم إخوانهم فى أسر العدو وبأيديهم خزائن الأموال وفضول الأحوال والقدرة والعدد والقوة والجلد. انتهى.
والخلاصة أن نصر المسلمين لإخوانهم فى البوسنة والهرسك وفى غير هذه البلاد مطلوب بالوسائل الممكنة التى لا تتعارض مع عهود ومواثيق واتفاقات دولية، وأنبه إلى وجوب الاهتمام فى المقام الأول بإصلاح حال المسلمين فيما بينهم جماعات ودولا حتى يكون هناك أثر لإصلاح حال المسلمين الذين يضطهدهم الأعداء فى بلاد غير إسلامية