[حكمة مشروعية الحج]
المفتي
عطية صقر.
مايو ١٩٩٧
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
نريد توضيح الحكمة فى مشروعية الحج، الواردة فى بعض آيات الذكر الحكيم؟
الجواب
من أهم الآيات التى ذكرت فيها حكمة مشروعية الحج قوله تعالى عن دعاء إبراهيم عليه السلام {ربنا إنى أسكنت من ذريتى بواد غير ذى زرع عند بيتك المحرَّم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون} إبراهيم: ٣٨، وقوله {وأذِّن فى الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق.
ليشهدوا منافع لهم} الحج: ٢٧، ٢٨، ففى الحج فائدة لأهل مكة تشمل كل منفعة دينية ودنيوية، مادية ومعنوية سياسية وثقافية واجتماعية وغيرها، يفيد منها الحجاج ومن يسكنون مكة ويفيد المسلمون بوجه عام.
وعلى ضوء ما ذكرناه من حكمة التشريع عامة نوضح حكمة الحج على الوجه التالى:
١- صلة العبد بربه فى الحج تظهر عندما يحرم الحاج ملبيًا، يقر بوحدانية الله ويشكره، ويرجع كل الفضل والنعمة إليه "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك " وحين يطوف بالبيت سائلا متضرعا يستمنح الله جوده وبره وعفوه، وحين يقبل الحجر أو يستلمه، كأنه يعاهد ربه على الطاعة، على حد ما روى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال عنه " إنه يمين الله يصافح بها خلقه ". رواه أحمد وابن خزيمة فى صحيحه. وفى سعيه بين الصفا والمروة كالمتردد قلقا على مصيره: هل تفضل الله عليه عند طوافه ببيته أو لم يتفضل، وفى وقوفه متجردا من كل زينة، ملغيا لقبه ومظاهر ترفه وراء ظهره خاشعا داعيا.
وفى هذه الهيئة المتواضعة مع الذلة والانكسار يقول الرسول صلى الله عليه وسلم " إن الله يباهى بأهل عرفات الملائكة فيقول: انظروا إلى عبادى أتونى شعثًا غبرًا ضاحين من كل فج عميق، أشهدكم أنى قد غفرت لهم " رواه أحمد والحاكم وابن حبان والبيهقى. وفى رميه للجمرات تشبه بحربه للشيطان ومقاطعة لما يغرى به من فساد، كما تظهر العبودية له بتحمل مشقة السفر، ومخالطة ذوى الطباع المختلفة والتعرض للاجواء الغريبة، مؤثرا رضاء الله على رضاء نفسه وفى الهدى والفداء رمز للتضحية بالدم وبأغلى ما يملك الإنسان إيثار لما عند الله وجهادا فى سبيله.
وفى الحج ارتباط بمهد النبوة وإحياء لبيت الله، وتذكر لحوادث ماضية كانت سببا فى قداسة هذا المكان، من وجود هاجر وابنها إسماعيل وحيدين فى هذا الوادى، ولطف الله بهما فنبعت لهما زمزم وعَمُرَ المكان وبنى أول بيت وضع للناس مباركا وهدى للعالمين.
هذا، وفى الذكر والتكبير والتلبية عند المشاعر صلة قوية بالله، قال تعالى {فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين.
ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم. فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم اَباءكم أو أشد ذكرا} البقرة: ١٩٨ - ٢٠٠، وقال {واذكروا الله فى أيام معدودات} البقرة: ٢٠٣، وقال {والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف} الحج: ٣٦.
هذا الذكر كله يدل عليه فى حكمة الحج قول النبى صلى الله عليه وسلم "إنما فرضت الصلاة وأمر بالحج وأشعرت المناسك لإقامة ذكر الله " رواه أبو داود والترمذى وقال: حسن صحيح.
٢- الإحرام بالحج فى ملابس متواضعة وبعدٍ عن مظاهر الترف درس عملى فى التواضع وعدم الغرور بزخارف الدنيا وفيه نكران للذات وتركيز على التقرب إلى الله بقلب خالص وعمل طيب ينال به الكرامة عنده. وقد حج النبى صلى الله عليه وسلم على رحلٍ رث وقطيفة خلقة وقال "اللهم حجًّا لا رياء فيه ولا سمعة" رواه الترمذى وعن ابن عمر رضى الله عنهما أن رجلا سأل النبى صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله من الحاج؟ قال " الشعث التفل " رواه ابن ماجه بإسناد حسن. والشعث هو البعيد العهد بتسريح شعره وغسله، والتفل هو من ترك الطيب والتنظف حتى تغيرت رائحته.
وفى الحج تمرين على الأسفار والترحال وتحمل المضايقات وضبط النفس عن السباب والفسوق وإمساك عن المغريات، وفى الحديث الشريف "من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه " رواه البخارى ومسلم وفيه إلى جانب ذلك ثقافة واطلاع وتفكر واعتبار ودراسة عملية على الطبيعة-إلى حد ما - لفترة من حياة النبى صلى الله عليه وسلم ولتاريخ العرب وذكرياتهم الدينية، مع منافع مادية تجارية وغيرها فى الموسم.
٣- لا ينكر أحد أن الحج فرصة لعقد مؤتمر إسلامى يتخطى حدود البيئة والجنس واللغة، ويعلو على الفوارق والعصبيات، ينبغى أن تناقش فيه المشكلات وتوضع فيه الحلول، وأن تتلاقى الأفكار وتتلاقح الثقافات، توكيدا للوحدة الجامعة التى يحبها الله لهذه الأمة {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون} الأنبياء: ٩٢، لتنهض سويا بواجباتها الدينية والإنسانية العامة، ولتقف صفا واحدا أمام العدو المتربص.
إن للمسلمين فى هذا الموسم من عوامل الوحدة ما يعلو على كل العوامل، فربهم جميعا واحد، ودينهم واحد، وقبلتهم واحدة، وغايتهم واحده، وزيهم واحد، وهم بهذه العوامل كأنهم شخص واحد ينبغى أن يكونوا كما قال النبى صلى الله عليه وسلم " مثل المؤمنين فى تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى"رواه البخارى ومسلم.
هذه بعض حكم تلتمس للحج، وإذا كان فى بعض شعائره ما تخفى الحكمة فيه كرمى الجمار فإن أداءها لمجرد أنها مشروعة من الله دليل على قوة الإيمان وعلى الثقة البالغة فى حكمة الله كما قدمنا.
ولعل الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحس أن فى بعض النفوس خواطر تحوم حول بعض هذه الشعائر فنبَّة إلى جانب التعبد والتسليم المطلق فيها قائلا وهو يلبِّى " لبيك بحجة حقًّا، تعبدا ورقًّا" رواه البزار والدار قطنى، ويوضحه قول عمر رضى الله عنه حين قبَّل الحجر الأسود: والله إنى لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع وله لولا أنى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبتك. رواه البخارى ومسلم