للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الخدمة العسكرية]

المفتي

عطية صقر.

مايو ١٩٩٧

المبادئ

القرآن والسنة

السؤال

ما هو موقف الإسلام من الخدمة العسكرية؟

الجواب

قال علماء الاجتماع قديما وحديثا إن الأمن من أهم أركان المجتمع السليم، وأن من واجب الحاكم حراسة الأمة من عدو أو باغ على نفس أو مال أو عرض، وهذا يقتضى تكوين جيش قوى لهذه المهمة.

والإسلام يدعو إلى ذلك من أجل إقرار الأمن والدفاع عن الحرمات، وجاء التعبير عنه فى القرآن والسنة باسم الجهاد، والجهاد فرض كفاية إذا قام به البعض من القادرين عليه سقط الطلب عن الباقين، ويكون فرض عين على كل إنسان عند الهجوم علينا أو أمر ولى الأمر بالنَّفْر والخروج له، والنصوص فى ذلك كثيرة منها قوله تعالى {كتب عليكم القتال وهو كُره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم} البقرة: ٢١٦، وقوله تعالى {انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم فى سبيل الله} التوبة: ٤١، ورغَّب فيه بمرغبات كثيرة منها قوله تعالى {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، يقاتلون فى سبيل الله فيَقتلون ويُقتلون وعدا عليه حقا فى التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذى بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم} التوبة: ١١١، وقول النبى صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخارى "إن فى الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين فى سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض ".

وحذر من التقاعد والتقاعس عنه فقال سبحانه {يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا فى سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا فى الآخرة إلا قليل. إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا} التوبة: ٣٨، ٣٩.

ولأهمية القوة العسكرية كان الإسهام فيها بأى نوع من الإسهام له ثوابه العظيم، ففى الحديث "جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم " رواه أبو داود بسند صحيح وفيه أيضا " من جهز غازيا فقد غزا، ومن خلف غازيا فى أهله بخير فقد غزا" رواه البخارى ومسلم.

ومن هنا جاء الأمر بالاستعداد القوى له فقال سبحانه {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم} الأنفال: ٦٠، وحث على التدريب على كل الأسلحة، وكان منها أيام الرسول صلى الله عليه وسلم ركوب الخيل والرمى فقال " من ترك الرمى بعدما علمه رغبة عنه فإنها نعمة كفرها" رواه أبو داود، وأمر بأن يعيش كل إنسان فى جو الاستعداد للطوارئ فقال " من لم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من النفاق " رواه مسلم وقال " من سأل الله تعالى الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه " رواه مسلم. والخدمة العسكرية تدريب واستعداد وأخذ بالحذر واحتياط للمفاجآت، قال تعالى {يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم} النساء: ٧١، وقال تعالى {ودَّ الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة} النساء: ١٠٢، والمؤدى للخدمة العسكرية مُرَابط وفى الحديث " رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه " رواه مسلم. وهى أمر تنظيمى إلى جانب أنه أمر إلهى دينى، فلابد من طاعة ولى الأمر فيه لأنه للمصلحة ولا معصية فيه.

إن المتهرب من الخدمة العسكرية واحد من اثنين، فهو إما جبان يخاف على نفسه أو ماله أو أهله، وإما جاسوس متواطئ على الأمة مع العدو المتربص، بصورة مباشرة أو غير مباشرة وهو سلبى والسلبية من أكبر عوامل الانهزام فى المعارك أيا كان ميدانها، ومن لم يهمه أمر المسلمين فليس منهم كما فى الحديث المقبول، فالفرار من المعركة من كبائر الذنوب، والتحايل على عدم المشاركة فى الجهاد من صفات المنافقين الجبناء والمتواطئين على الإسلام، فقد استأذن جماعة منهم عند خروج الرسول إلى الغزو متعللين بأسباب واهية كخوف الفتنة بنساء العدو كما قال سبحانه {ومنهم من يقول ائذن لى ولا تفتنى ألا فى الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين. إن تصبك حسنة تسوءهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون} التوبة: ٤٩، ٥٠، وفى ذلك بيان لسوء نيتهم وكراهية الخير للمسلمين، وذم الله تخلُّفَهم بدون عذر فقال {رضوا بأن يكونوا مع الخوالف} التوبة: ٨٧، والخوالف هم المتخلفون الذين لم يحظوا بشرف الجهاد، من النساء والصبيان والمرضى وذوى العاهات، كما ذمهم بقوله {لا يستوى القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر والمجاهدون فى سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، فَضَّل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة ... } النساء: ٩٥.

لعل بعض المتهربين من شرف الخدمة العسكرية يقول: إن الجيوش الآن لا تقوم بالجهاد الحقيقى لنشر دين الإسلام، ونقول: إن الجهاد ليس هجومًا على الآمنين وإنما هو دفاع أو تأمين لطريق الدعوة، والبدء به ممنوع كما دلت على ذلك النصوص، فهو لدفع عدوان واقع أو مترقب دلَّت عليه القرائن ونقول لهؤلاء المتخلفين: من الذى يدافع عنكم إذا أغار عليكم العدو؟ هل تنتظرون من غيركم -وأنتم ترمونهم بالكفر أو الفجور-أن يدافعوا عنكم؟ وهل تستسلمون للعدو وأنتم لا تحسنون الدفاع عن أنفسكم؟ كيف غاب عنكم ما رواه مسلم أن رجلا سأل النبى صلى الله عليه وسلم:

أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالى؟ فقال له "فلا تعطه مالك " قال:

أرأيت إن قاتلنى؟ ؛ قال: "قاتلْه " قال: أرأيت إن قتلنى؟ قال: " فأنت شهيد" قال أرأيت إن قتلته؟ قال " هو فى النار " والحديث يقول أيضا "من قُتلَ دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد" رواه أبو داود والترمذى وقال:

حديث حسن صحيح.إن الخدمة العسكرية تعلمك كيف تدفع العدو وتحمى نفسك ومالك وعرضك ودينك وكل المقدسات، وتنال بذلك شرف الشهادة.

ولعل بعض المتخلفين عن الخدمة بدون عذر يقول: إن الجهاد لا يجب تحت قيادة كافرة، ونقول له، أين أنت من قول النبى صلى الله عليه وسلم "والجهاد ماض منذ بعثنى الله إلى أن يقاتل آخر أمتى الدجال، لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل " رواه أبو داود.

وهو يدل على صحة الجهاد تحت قيادة الفاجر، ولكل واحد جزاء عمله، وعلى الجندى طاعة قائده فى الأوامر العسكرية منعا للتفرق {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم} الأنفال: ٤٦، والنبى صلى الله عليه وسلم كان يولى قيادة الجيش مَنْ هو خبير بفنون القتال، أما عمله الخاص فهو له، وفى حديث البخارى ومسلم " إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر " وذلك بمناسبة انتحار رجل يظهر الإسلام وقد أبلى بلاء حسنا فى المعركة، وأخبر عنه الرسول بأنه فى النار.

يقول ابن تيمية فى كتابه " السياسة الشرعية ": يقدَّم فى ولاية الحروب القوى الشجاع وإن كان فيه فجور، يقدم على الضعيف العاجز وإن كان أمينا، كما سئل أحمد بن حنبل عن رجلين فى الغزو، أحدهما قوى فاجر والآخر صالح ضعيف، فقال: أما الفاجر القوى فقوته للمسلمين وفجوره على نفسه، وأما الصالح الضعيف فصلاحه لنفسه وضعفه على المسلمين، فَيُغْزَى مع القوى الفاجر، والنبى صلى الله عليه وسلم وَلَّى خالد بن الوليد الذى قال عنه إنه سيف سَلَّه الله على المشركين مع أنه أحيانا كان يعمل ما ينكره عليه، ورفع مرة يديه إلى السماء وقال "اللهم إنى أبرأ إليك مما فعل خالد "وذلك حين أرسله إلى (جُذَيْمَةَ) فقتلهم وأخذ أموالهم بنوع شبهة، فتحمل النبى صلى الله عليه وسلم دياتهم.

إن الجهاد شرف عظيم لا يفر منه إلا الجبناء أو المنافقون. ولشرفه كان الصحابة يتسابقون إليه، ومن لم يَفُز بهذا الشرف لعذر كان يحزن ويبكى ويحاول تقديم خدمة لأمته ولو بالعفو عن الحقوق التى له عندهم كما فعل عُلْبة بن زيد فى غزوة تبوك، وكان صغار الصحابة يتنافسون أمام الرسول لإظهار قوتهم حتى يقبلهم ضمن المقاتلين، وكان الرجل من السلف الصالح إذا خرج للغزو طلب من أهله أن يدعوا الله ألا يرجع إليهم، وذلك شوقا إلى الشهادة فى سبيل الله.

وإذا صح أن الإمام مالكا قال: لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، فإن مما صلح به الأولون حب الجهاد وخدمة الإسلام بما يمكن من قوة ومال وجهد فى أى ميدان من ميادين الخير

<<  <  ج: ص:  >  >>