[الحجر الأسود]
المفتي
عطية صقر.
مايو ١٩٩٧
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
سمعنا أن الحجر الأسود من الجنة فما مدى صحة هذا القول وما حكم تقبيله؟
الجواب
عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: " نزل الحجر الأسود من الجنة، وهو أشد بياضا من اللبن، فسودته خطايا بنى آدم لما رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، ورواه ابن خزيمة فى صحيحه، إلا أنه قال " أشد بياضا من الثلج " وروى الطبرانى فى معجمه الأوسط ومعجمه الكبير مثله بإسناد حسن وكذلك البيهقى.
وعن عبد الله بن عَمْرو رضى الله عنهما قال: نزل الركن الأسود من السماء فوضع على أبى قبيس "جبل " كأنه مهاة بيضاء-أى بلورة- فمكث أربعين سنة ثم وضع على قواعد إبراهيم. رواه الطبرانى فى معجمه الكبير موقوفا على عبد الله بن عمرو بإسناد صحيح، أى ليس مرفوعا إلى النبى صلى الله عليه وسلم.
وجاء فى الروايات التاريخية أن إبراهيم عليه السلام طلب حجرا مميزا يضعه فى البيت فجاءه به جبريل عليه السلام.
نأخذ من مجموع هذه الروايات أن الحجر الأسود من الجنة، وأنه كان أبيض فسودته خطايا بنى آدم، لكن درجة الأحاديث مترددة بين الصحة والحسن، وهى على كل حال لم تبلغ درجة التواتر، فهى أحاديث آحاد. ولو كانت،صحيحة فإن هناك خلافا بين العلماء فى إفادة حديث الآحاد الصحيح القطع والعلم اليقين.
وما دام لا يوجد ما يمنع تصديق هذه الأحاديث فلنصدقها، ومع ذلك فإن من لم يصدقها لا يخل ذلك بعقيدته، ولا يخرجه من الإيمان إلى الكفر.
هذا، وقد نشر فى " الأهرام " الصادر فى يوم الجمعة بتاريخ ٨ / ١٠ / ١٩٨٢ م بقلم محمد عبده الحجاجى مدير إدارة بالمكتبة المركزية بجامعة القاهرة أن الحجر الأسود من السماء وسقوط الأحجار من السماء ظاهرة كونية معروفة ومؤكدة، وقد قام العالم البريطانى "ريتشار ديبرتون " برحلة إلى الحجاز متخفيا فى زى مغربى، مدعيا أنه مسلم وكان يجيد اللغة العربية، واندس بين الحجاج واستطاع أن يحصل على قطعة من الحجر، وحملها معه إلى لندن، وبدأت تجاربه عليها فى المعامل الجيولوجية، فتأكد أنه ليس حجرا أرضيا، بل هو من السماء، وسجل هذا فى كتاب له بعنوان " الحج إلى مكة والمدينة " الذى صدر بالإنجليزية فى لندن سنة ١٨٥٦ م.
وسواء أكان الحجر من السماء أم لم يكن فإن الثابت أنه حجر مبارك قَبَّلَه النبى صلى الله عليه وسلم، وثبت فى البخارى ومسلم أن عمر رضى الله عنه قبَّله اقتداء بالرسول مقسما أنه لا يضر ولا ينفع، ورويت أحاديث غير قاطعة تدل على أن استلامه بمثابة عهد مع الله على الطاعة.
تقبيله:
روى الحاكم وصححه أن النبى صلى الله عليه وسلم قبَّل الحجر الأسود وبكى طويلا، ورآه عمر فبكى لما بكى، وقال " يا عمر هنا نسكب العبرات " وثبت أن عمر رضى الله عنه قال وهو يقبله: والله إنى لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أنى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك. رواه البخارى ومسلم.
والتقبيل، سنة عند الاستطاعة وبدون إضرار بالناس. وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم لعمر " يا أبا حفص، إنك رجل قوى فلا تزاحم على الركن فانك تؤذى الضعيف، ولكن إذا وجدت خلوة فاستلم، وإلا فكبرِّ وامض " رواه الشافعى فى سننه.
وما هو السر فى اهتمام النبى صلى الله عليه وسلم بتقبيله والبكاء عنده؟ قد يقال: إن ذلك من باب التشبه بتقبيل يد السادة والكبراء، والحجر-كما فى بعض الروايات -يمين الله فى الأرض يصافح بها عباده، فالتقبيل إعظام وإجلال للَّه سبحانه أو تعاهد معه على الطاعة والالتزام كما يحدث بين الناس فى المبايعة والموالاة.
وقد يقال: إن الحجر هو الجزء الباقى بيقين من أحجار الكعبة التى بناها أبوه إبراهيم عليه السلام، فالرسول يكرم هذا الأثر، ويتذكر به أصوله الأولى وما قاموا به من أمجاد وتضحيات هيأت لولادته وبعثته حول هذا الأثر الباقى وهو الكعبة.
وقد يقال: إن الرسول عليه الصلاة والسلام يقبله متذكرا إكرام الله له وتهيئته من الصغر ليكون رسول هذه الأمة، حيث فصل فى نزاع خطير بين القبائل من أجل نيل الشرف بوضع الحجر الأسود فى مكانه عند تجديد بناء الكعبة قبل البعثة حيث ارتضوه -وهو الأمين -حكما فى هذا النزاع، فأشركهم فى حمله بثوب، ثم أخذه بيده ووضعه فى مكانه، إنه شرف جدير بالاعتزاز به، يتذكره الرسول بعد سنوات طوال ترك فيها مكة وحرمه أهلها من زيارة البيت، حتى مكنه الله منه بعد أن انتصر وعز، ورفع الله ذكره.
كل ذلك يمكن أن يكون حيثيات للاهتمام الزائد من النبى صلى الله عليه وسلم بهذا الحجر، مع العلم بأن تقبيل الحجر ليس عبادة له أبدا، فالعبادة لله وحده، كما أن الطواف بالبيت ليس عبادة للبيت، بل للَّه سبحانه الذى أمر به فى قوله {وليطوفوا بالبيت العتيق} الحج:٢٩، وقال فى امتنانه على قريش {فليعبدوا رب هذا البيت} قريش: ٣، فتقبيل الحجر ليس عبادة له، ولو كان فيه خطأ لم يقر الله رسوله عليه أبدا، والله لا يقر أحدا على شرك فى عبادته.
وشعور عمر عند تقبيل الحجر هو شعور الموحد للَّه سبحانه والمقتدى بالرسول صلى الله عليه وسلم، فإن الإقتداء به مطلوب.
وشعور الرسول بتقبيله هو أيضا شعور الموحد له سبحانه المعترف الشاكر لنعمه عليه وعلى أبيه إبراهيم عليه السلام، وشعور المشتاق للجنة، فقد قيل إن الحجر من الجنة وكان أبيض فسودته خطايا بنى آدم وإن لم يكن الخبر قطعى الثبوت كما قدمنا.
فالرسول صلى الله عليه وسلم بكل هذه المشاعر والأحاسيس يقبل الحجر الأسود، وهو فى قمة التوحيد للَّه وإخلاص العبادة له سبحانه