[حكمة التشريع]
المفتي
عطية صقر.
مايو ١٩٩٧
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
نلاحظ أن بعضى المتهاونين فى تنفيذ أوامر الذين إذا نصحناهم بالامتثال قالوا: حتى نقتنع فما حكم الدين فى هؤلاء؟
الجواب
من المعلوم لكل مؤمن أن أفعال الله سبحانه لا تخلو من حكمة، ضرورة أنه حكيم عليم خبير، وقضية إيمان العبد بحكمة خالقه وسيده أن ينفذ أوامره دون سؤاله عن حكمة هذه الأوامر، لأن هذا يؤدى إلى أنه إذ لم يقنع رفض التنفيذ، وهذا هو موقف إبليس من أمر ربه له بالسجود لآدم، حيث إنه لم يقتنع بصواب هذا الأمر، وتناهى فى الغرور بنفسه وفكره فبرر الرفض بأنه أفضل من آدم جاء ذلك فى قوله تعالى {قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتنى من نار وخلقته من طين} الأعراف: ١٢ بل إن هذا الموقف يؤول إلى اعتبار العقل أقوى من الله، وإلى الاستجابة إلى الهوى ورفض ما لا يتفق معه، وفى ذلك يقول الله سبحانه {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون} الجاثية: ٢٣ وقد جاء فى الحديث " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به " صححه النووى فى كتابه " الأربعين النووية" لكن البغوى فى " مشكاة المصابيح " قال: هذا وهم فالسند ضعيف، فيه نعيم بن حماد وهو ضعيف، وأعله الحافظ ابن رجب بغير هذه العلة، ورواه الحاكم ابن عساكر فى أربعينه وقال: حديث غريب.
إن بعض الأحكام الشرعية قد تخفى فيها حكمة التشريع، ولكن مادامت قد ثبتت فلا بد من امتثالها، يقول الله سبحانه {كتُب عليكم القتال وهو كُره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لاتعلمون} البقرة: ٢١٦ ولو أعمل الإنسان فكره فى أمثال هذه التكاليف الشاقة لعلم أنها حق، وقد يشير الله إلى ذلك فى بعض آيات أخرى مثل قوله تعالى {ولولا دفع الله الناس بعضهم لبعض لفسدت الأرض} البقرة: ٢٥١.
ولعلم الله سبحانه بطبيعة الإنسان الذى يغريه بالعمل إيمانه بفائدته يبين كثيرا فى تشريعاته الحكم والفوائد المترتبة عليها بأسلوب يتناسب مع بلاغة القران، كما قال فى حكمة الصيام {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون} البقرة: ١٨٣ فالحكمة هى التقوى وتوضيح ذلك يطول، وكما قال فى حكمة الصلاة {وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} العنكبوت:٤٥ وكما قال فى تشريع القصاص {ولكم فى القصاص حياة} البقرة: ١٧٩ وكما قال فى تحريم الخمر والميسر {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون. إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء فى الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون} المائدة: ٩٠، ٩١.
وفى بعض الأحيان تأتى التكاليف مجردة عن بيان حكمتها، وذلك أسلوب من أساليب امتحان العبد لظهور مدى إيمانه بحكمة الله فى أوامره ونواهيه، فالمؤمن الصادق يسارع إلى الامتثال مطمئنا إلى عدالة التشريع، وغير الصادق يتوقف فإن فهم الحكمة فكَّر فى الامتثال، وإن لم يفهم سَوَّلت له نفسه الرفض أو التكاسل، ومن هنا يكون امتثاله شكليا كفعل المنافقين الذين قال الله فيهم {وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون} التوبة: ٥٤.
يقول الإمام الغزالى فى كتابه "إحياء علوم الدين ج ١ ص ١١١ ":
واجبات الشبع ثلاثة أقسام، قسم هو تعبُّدُ محْضُ لا مدخل للحظوظ والأغراض فيه، وذلك كرمى الجمرات مثلا، إذ لاحظَّ للجمرة فى وصول الحصاة لها، فمقصود الشرع فيه الابتلاء بالعمل، ليظهر العبد رقه وعبوديته بفعل ما لا يعقل له معنى، لأن ما يعقل معناه فقد يساعده الطبع عليه ويدعو إليه، فلا يظهر به خلوص الرق والعبودية. والقسم الثانى من واجبات الشرع المقصود منه حظ معقول، وليس يقصد منه التعبد، كقضاء دين الآدميين ورد المغصوب، فلا جرم لا يعتبر فيه فعله ونيته، ومهما وصل الحق إلى مستحقه بأخذ الحق أو ببدل عنه عند رضاه تأدى الوجوب وسقط خطاب الشرع، والقسم الثالث هو المركب الذى يقصد منه الأمران جميعا، وهو حظ العباد وامتحان المكلف بالاستعباد، فإن ورد الشرع به وجب الجمع بين المعنيين، ولا ينبغى أن ينسى أدق المعنيين وهو التعبد والاسترقاق بسبب أجلاهما، ولعل الأدق هو الأهم. . . والزكاة من هذا القبيل. . .
وقال فى صفحة ٢٤٠: وإذا اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى ربط نجاة الخلق بأن تكون أعمالهم على خلاف هوى طباعهم، وأن يكون زمامها بيد الشرع، فيترددون فى أعمالهم على سنن الانقياد وعلى مقتضى الاستعباد كان ما لا يهتدى إلى معانيه أبلغ أنواع التعبيرات فى تزكية النفوس وصرفها عن مقتضى الطباع والأخلاق إلى مقتض الاسترقاق، وإذا تفطنت لهذا فهمت أن تعجب النفوس من هذه الأفعال العجيبة مصدره الذهول عن أسرار التعبدات. انتهى.
بعد هذا البيان الشافى من كلام حجة الإسلام الإمام الغزالى لا يجوز لأحد يوجه إليه النصح بالالتزام بأحكام الدين أن يقول: حتى أقتنع، فذلك هو مسلك الشيطان، وقد حذرنا الله من اتباعه لأنه عدو مبين، إن كثيرا من التكاليف جاء النداء بها بوصف الإيمان {يا أيها الذين آمنوا} يعنى ما دمتم مؤمنين بالله فعليكم أن تتقبلوا كل تكاليفه بنفس راضية مطمئنة، تحقيقا لعبوديتكم الخالصة لله سبحانه وإيمانكم القوى بعدله وحكمته. ولنعلم جميعا أن رفض حكم الله كفر، وأن التهاون فيه مع الإيمان به عصيان وفسوق. وهو سبحانه يقول {إن تكفروا فإن الله غنى عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون إنه عليم بذات الصدور} الزمر: ٧