الجهاد من الكلمات التى أُسىء استعمالها لعدم فهم معناها فهما صحيحا، فالجهاد مأخوذ من الجَهْد وهو التعب، أو الجُهد وهو القوة، فالمجاهد يبذل جُهْدا يحس فيه بِجَهْد، أي يبذل قوة يحس فيها بتعب، ومعنى الجهاد بذل الجهد لنيل مرغوب فيه أو دفع مرغوب عنه، يعنى لجلب نفع أو منع ضر، وهو يكون بأية وسيلة وفى أى ميدان حسى أو معنوى، ومنه جهاد النفس والشيطان وجهاد الفقر والجهل والمرض وجهاد البشر. والنصوص فى ذلك كثيرة، وجهاد البشر يكون بدفع الصائل المعتدى على النفس أو المال أو العرض، والميت فى هذا الجهاد شهيد كما صح فى الحديث، كما يكون الجهاد عند الاعتداء على الأوطان والحرمات، أو الوقوف ضد الدعوة إلى الخير. والجهاد فى سبيل الله عرف فى الشرع بما يرادف الحرب لإعلاء كلمة اللَّه، ووسيلته حمل السلاح وما يساعد عليه ويتصل به من إعداد وتمويل وتخطيط، ويشترك فيه عدد كبير من الناس، من زراع وصناع وتجار وأطباء ومهندسين وعمال ورجال أمن ودعاة وكُتَّاب، وكل من يسهم فى المعركة من قريب أو بعيد.
وكان هذا الجهاد هو الشغل الشاغل للمسلمين فى بدء تكوين المجتمع الإسلامى وأكثر آيات القراَن وأكثر الأحاديث كانت للأمر به والتشجيع عليه:{انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم فى سبيل اللَّه} التوبة: ٤١، وهو فرض عين على كل قادر عليه إن أغار علينا العدو، وفرض كفاية إن لم تكن إغارة علينا، وإذا استنفر الإمام القوة وجب الخروج، لقوله تعالى:{يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا فى سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض. . .} التوبة: ٣٨، وحديث البخارى ومسلم " وإذا استنفرتم فانفروا " لقد كان هناك انتقال بالدعوة لنشرها فى ربوع العالم حيث يقوم بذلك جماعة من القادرين نيابة عن غيرهم ما دامت فيهم كفاية، وكل مسلم يجب أن يكون مستعدًّا لإجابة الداعى إلى الجهاد، وعليهم جميعا أن يكونوا على أقصى درجات الاستعداد {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة. . . .} الأنفال: ٦٠،. لكن: هل حمل السلاح هو الوسيلة الوحيدة لنشر الدعوة؟ إن مهمة حمل السلاح كانت لغرضين أساسيين، أولهما رد العدوان الواقع أو المنتظر، والثانى تأمين طريق الدعوة. ورَدُ العدوان ظهر فى غزوات بدر وأحد والخندق وغيرها، وكان عدوانا حقيقيا واقعا، ومنه إغاثة المظلومين:{وإن استنصروكم فى الدين فعليكم النصر. . .
} الأنفال: ٧٢، أما رد العدوان المنتظر فكان فى فتح مكة حيث نقضت قريش عهدها الذى أبرمته مع النبى صلى الله عليه وسلم فى الحديبية، وفى غزوة تبوك وغيرها. وتأمين الطريق كان فى تحرك المسلمين خارج حدود المدينة لنشر الدعوة فى أنحاء العالم، لأنها دعوة عالمية للناس جميعا. إن الإسلام إذا كان قد فرض القتال، والرسول عليه الصلاة والسلام إذا أخبر أنه بعث بالسيف، وجُعل رزقه تحت ظل رمحه، كما رواه أحمد عن ابن عمر، فإن الواجب أن نفهم أن الإسلام أمر بالقوة، بل دعا إلى أن يكونوا فى أعلى درجاتها، والسبب فى ذلك أن الإسلام قوة جديدة فالمنتظر أن تحاربها القوات القائمة إذا ذاك حتى لا تزاحمها فى سلطانها، وذلك شأن الناس فى كل العصور، فلا بد من الدفاع عن الكيان الجديد ليثبت وجوده ويؤدى رسالته، ولو أن الإسلام كان دعوة محلية أو مؤقتة لكانت مهمة التسلح هى من أجل الدفاع، لكنه دعوة عالمية لابد أن تبلغ للعالم كله، والوسيلة إذ ذاك هى السفر والضرب فى الأرض، والسفر كان وما يزال تحفُّه المخاطر، فكان لا بد من التسلح حتى لا يقف الأعداء فى طريق الدعوة.
وإذا كان السيف لابد منه لتأمين طريق الدعوة فى الماضى، فإنه فى هذه الأيام لا مهمة له إلا الدفاع ضد من يريدون شرًّا بالإسلام وأهله، أما نشره فله عدة وسائل لا تحتاج إلى سفر ولا تخشى معه مخاطر لطريق، فالصحف والمكاتبات وما إليها أصبحت تتخطى الحدود، ولئن أمكن التحكم فيها إلى حد ما، فإن الإذاعات اليوم أصبحت من القوة والانتشار، بحيث لاحقت الناس وهم في بيوتهم وعلى أسِرّةِ نومهم لا تمنعها سلطة ولا تقف دونها حدود ولا أبواب. هذا، وما يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأهل مكة قبل الهجرة " أما والذى نفس محمد بيده لقد جئتكم بالذبح " كما رواه الطبرانى- فهو حديث ضعيف يرده العقل والنقل، أما الأول فلأن الرسول صلى الله عليه وسلم كيف يصرح بذلك فى بدء الدعوة وهو منفر لها لا مرغب فيها؟ وكيف يقوله وهو ضعيف لا يستطيع حماية نفسه فضلا عن حمايته لأتباعه القلة؟ ولماذا تركته قريش وهم يعلمون ما جاء به من الذبح ليحقق ما يريد، ولم يتغدوا به قبل أن يتعشى بهم؟ وأما الثانى فلمنافاته لآية {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} الأنبياء: ١٠٧، وحديث " إنما أنا رحمة مهداة" رواه الحاكم والطبرانى، وما يماثله من نصوص وأحداث تدل على رقة قلبه وعظيم رحمته. ولو كان النبى صلى الله عليه وسلم متعطشا للدماء، وبخاصة من قريش ما عفا عنهم عند فتح مكة وهو القادر على الانتقام منهم، كما أن الحديث لا يراد به قهرهم على الإسلام فهو يتنافى مع طبيعة الدعوة. ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم الذى رواه أحمد بسند صحيح " جُعل رزقى تحت ظل رمحى" أن رزقه من الغنائم التى يحصل عليها المسلمون من الحروب التى كان يباشر أكثرها بنفسه، وكفاية رئيس الدولة توفر من الخرينة العامة بمواردها المتعددة، ومنها الغنائم، وهو مبدأ إسلامى أقره الصحابة لأبى بكر وعمر والخلفاء. إن الفهم السطحى لمشروعية القتال بالآيات والآحاديث ربما يوحى بأن الإسلام قد انتشر بقوة السلاح، ولولا ذلك ما كان له وجود أو ما كان بهذه المساحة الكبيرة من الأرض، أو من نفوس الناس، وكيف يقال ذلك والإسلام دين الرحمة كما سبقت الإشارة إلى ذلك، وهو الذى قال {ادخلوا فى السلم كافة} البقرة: ٢٠٨، {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على اللَّه} الأنفال: ٦١، " لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف " رواه البخارى ومسلم. إن الدعوة الإسلامية للعرض لا للفرض، فما كانت العقائد تغرس بالإكراه أبدا، لا فى القديم ولا فى الحديث، والله يقول عن نوح {أنلزمكموها وأنتم لها كارهون} هود: ٢٨، ويقول لمحمد عليه الصلاة والسلام {أفأنت تُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين} يونس: ٩٩، إلى غير ذلك من النصوص. وعندما أرسل النبى صلى الله عليه وسلم عليًّا لقتال يهود خيبر قال: أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ يعنى أرغمهم على الإسلام، فقال له " انفذ على رِسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإِسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق اللَّه فيه، فواللَّه لأن يهدى اُلله بك رجلا واحدا خير من أن يكون لك حُمْرُ النَّعَم " رواه مسلم. وإذا جاءت نصوص تدل بظاهرها على الأمر المطلق بالقتال فهناك نصوص أخرى تقيدها بما إذا كان ذلك ردًّا لعدوان وقع، أو جزاء على نكث العهد، أو منعا لعدوان سيحدث، قال تعالى {وقاتلوا فى سبيل اللَّه الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا} البقرة: ١٩٠، وقال تعالى {وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا فى دينكم فقاتلوا أئمة الكفر} التوبة: ١٤، فيُقَيَّدُ بذلك قوله تعالى {وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة} التوبة: ٣٦، وقوله {واقتلوهم حيث ثقفتموهم} البقرة: ١٩١، {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة} البقرة: ١٩٣،. ولو جاءت نصوص تفيد فى ظاهرها أن القتال لأجل الإِسلام فالمراد أن القتال ينتهى لو أعلن الناس، الإِسلام، ويسر خوض المعركة أساسا من أجل أن يسلموا، وذلك مثل حديث " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللَّه، فاذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على اللَّه " رواه البخارى ومسلم، وكذلك قوله تعالى:{قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم اللَّه ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية. . .} التوبة: ٢٩، فلم يكن أخذ الجزية باعثا على القتال ولكن كان غاية ينتهى عندها إذا دفعوها، ويؤكد أن الغرض من القتال ليس مادة أن أبا عبيدة ردَّ على أهل المدن ما أخذه منهم جزية حين استدعوا إلى مقابلة الروم فى اليرموك، لأنها كانت فى مقابل حمايتهم، وحيث إنهم تخلوا عنها فلامعنى لبقائها فى حوزتهم كما ذكره أبو يوسف فى كتابه " الخراج ". هذا، ولعل الذين ينادون بالجهاد عن طريق حمل السلاح يقصدون الجهاد لتغيير الوضع الحالى للمجتمعات الإِسلامية، وقد قلنا: إن وسيلة الإِصلاح لن تؤمن عاقبتها إذا كانت قائمة على العنف، فإن للقوة إعدادها وتخطيطها الكبير الجبار، وكذلك لدراسة كل الظروف القائمة أهميتها فى القيام بمثل هذه الحركة، ولا يجوز أن يفهم من هذا أننا نهوشّ من شأن الجهاد بمعناه العام، فإنه ماض إلى يوم القيامة فى ميادينه الواسعة وبأساليبه المتعددة، لحديث " والجهاد ماض مذ بعثنى الله إلى أن يقاتل آخر أمتى الدجال، لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل " رواه أبو داود، فإنه يدل بعمومه على بقاء الجهاد فى الميادين السلمية، ويدخل فيه الجهاد المسلح دخولا أوليا، وقد يرشح دلالته عليه بخاصة ذكر فتال الدجال بعد.
وإذا كان الجهاد مفروضا بالسلاح لتأمين طريق الدعوة والدفاع عن الحرمات، فذلك واضح فى الجهاد ضد الكفار، أما الجهاد بين الدول الإِسلامية فلا يجوز مطلقا أن يكون للعدوان على الحقوق، بل لرد العدوان، ولا يلجأ إليه إلا إذا فشلت كل الطرق السلمية، على حد قوله تعالى:{وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فان بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التى تبغى حتى تفىء إلى أمر الله. . .} الحجرات: ٩، وفى الدفاع يقول الحديث " من قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون ماله فهو شهيد. " رواه أبو داود، ويُحَذر من العدوان على الأفراد أو الجماعات أو الدول بين المسلمين فيقول " إخا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول فى النار " قيل: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال " كان حريصا على قتل صاحبه " رواه البخارى ومسلم