[الأكل على المائدة]
المفتي
عطية صقر.
مايو ١٩٩٧
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
دعوت بعض زملائى إلى مأدبة، فلما هيأت لهم الطعام غضب أحدهم وقال الأكل على المائدة بدعة محرمة، وأبى أن يأكل وجلس على الأرض يتناول الطعام، ودار نقاش طويل حول هذا الموضوع، فما رأى الدين فى ذلك؟
الجواب
نبهنا كثيرا إلى عدم الجرأة فى الفتيا بغير علم، وعدم الإسراع بإطلاق اسم البدعة على كل شىء جديد فقد يكون له أصل قديم، وعدم الاستطراد فى الحكم على كل بدعة بأنها ضلالة، وكل ضلالة فى النار.
وكنت ناويا عدم التحدث فى هذا الموضوع الدنيوى الذى لم يرد فيه نهى بصريح القول، فى القرآن والسنة، لولا أن بعض الناس يجعلون من الحبة قبة، ويشغلون الناس بأمور مضت عدة قرون على حسم الخلاف فيها، ليضيعوا الوقت الثمين ويفرقوا بين الجماعة، ويعطوا الفرصة للأعداء لاتهام الدين بالجمود وعدم الصلاحية لقيادة الإنسانية إلى الخير كما يقول المسلمون.
وردت أحاديث فى هدى النبى صلى الله عليه وسلم فى تناول الطعام، منها ما رواه قتادة عن أنس قال: ما أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم خوان قط، فقال قتادة لأنس: فعلام كانوا يأكلون؟ قال: على السُّفَر.
وهو حديث صحيح ثابت أخرجه الترمذى وقال فيه: حديث حسن غريب، أى رواه راو واحد فقط، وروى مسلم عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: لو كان الضب حراما ما أكل على مائدة النبى صلى الله عليه وسلم. وفى حديث خرَّجه الثقات عن عائشة رضى الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "تصلى الملائكة على الرجل ما دامت مائدته موضوعة" ذكر ذلك القرطبى فى تفسيره " ج ٦ ص ٣٧٣، ٤ ٣٧ ".
المائدة كل شىء يمد ويبسط، مثل المنديل والثوب، والخوان - بضم الخاء وكسرها-هو ما ارتفع عن الأرض بقوائمه، والسفرة-كما قال ابن الأثير فى النهاية - هى الطعام الذى يتخذه المسافر، وأكثر ما يحمل فى جلد مستدير، فنقل اسم الطعام إلى الجلد وسمى به، ومنه حديث عائشة رضى الله عنها:
صنعنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبى بكر سفرة فى جراب لما هاجرا، أى صنعنا طعاما لهما عند الهجرة.
من هذا نرى أن المائدة الشاملة للسفرة بلا قوائم كان يأكل عليها الرسول صلى الله عليه وسلم والعرب فى أيامه، أما الخوان وهو ما له قوائم ترفعه عن الأرض فلم يأكل عليه. فهل يفهم من هذا أن الأكل على الخوان - المنضدة، الترابيزة. . . -بدعة إن لم تك محرمة فهى مكروهة؟ .
فى بحث واسع عن البدعة اختلف العلماء فى عدم الاقتداء بالرسول فى أفعاله، هل هو حرام أو مكروه، أو ما تركه هل يجب تركه أو يُسَنُّ تركه، وهل الشىء الجديد الذى لم يرد فيه أمر ولا نهى، يعتبر بدعة ضلالة تؤدى إلى النار؟ أنا أترك الحديث فى هذه النقطة لحجة الإسلام الإمام الغزالى الذى عالجها قبل أن يتوفى سنة ٥٠٥ هجرية.
جاء فى كتابه الكبير "إحياء علوم الدين "ج ٢ ص ٣: أن من آداب الأكل أن يوضع الطعام على السفرة - المفروشة على الأرض - وذكر أن هناك أربعة أشياء حدثت بعد النبى صلى الله عليه وسلم، وهى الموائد والمناخل والأشنان -مثل الصابون -والشبع. ثم قال:
واعلم أنا وإن قلنا: الأكل على السفرة أولى، فلسنا نقول: الأكل على المائدة منهى عنه نهى كراهة أو تحريم، إذ لم يثبت فيه نهى، وما يقال: إنه أبدع بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس كل ما أبدع منهيا، بل المنهى بدعة تضاد سنة ثابتة، وترفع أمرا من الشرع مع بقاء علته، بل الإبداع قد يجب فى بعض الأحوال إذا تغيرت الأسباب، وليس فى المائدة إلا رفع الطعام عن الأرض لتيسير الأكل، وأمثال ذلك مما لا كراهة فيه.
ثم قال:
والأربع التى جمعت فى أنها بدعة ليست متساوية، بل الأشنان حسن لما فيه من النظافة، فإن الغسل مستحب للنظافة، والأشنان أتم فى التنظيف، وكانوا لا يستعملونه لأنه ربما كان لا يعتاد عندهم، أو لا يتيسر، أو كانوا مشغولين بأمور أهم من المبالغة فى النظافة، فقد كانوا لا يغسلون اليد أيضا، وكانت مناديلهم أخمص أقدامهم -باطن الأقدام - وذلك لا يمنع كون الغسل مستحبا.
وأما المنخل فالمقصود منه تطييب الطعام، وذلك مباح ما لم ينته إلى التنعم المفرط، وأما المائدة فتيسير للأكل، وهو أيضا مباح ما لم ينته إلى الكبر والتعاظم، وأما الشبع فهو أشد هذه الأربعة، فإنه يدعو إلى تهييج الشهوات وتحريك الأدواء فى البطن. فلتدرك التفرقة بين هذه المبدعات.
أعتقد أنه ليس بعد كلام الإمام الغزالى كلام فى هذا الموضوع -بل وغيره من الموضوعات -فليفهم هذا من يفتون بغير علم، حتى لا يَضِلُّوا ولا يُضَلُّوا والله سبحانه وتعالى يقول {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} النحل: ٤٣ والأنبياء: ٧؟