[نعيم القبر وعذابه]
المفتي
عطية صقر.
مايو ١٩٩٧
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ينكر بعض الناس أن هناك نعيما وعذابا فى القبر، فما هو رأى الدين فى ذلك؟
الجواب
الكلام هنا فى ثلاث نقط، الأولى فى ثبوته، الثانية فى دوامه، الثالثة فى كونه للروح والجسد أو للروح فقط.
النقطة الأولى:
نعيم القبر وعذابه ثابتان بأدلة كثيرة منها:
١ -روى البخاري ومسلم وأصحاب السنن أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "المسلم إذا سئل فى قبره فشهد أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدا رسول اللَّه " فذلك قول الله {يثبت اللَّه الذين آمنوا بالقول الثابت فى الحياة الدنيا وفى الآخرة} . وفى لفظ: نزلت فى عذاب القبر، يقال له: مَنْ ربك؟ فيقول: اللَّه ربى ومحمد نبيى، قذلك قول اللَّه {يثبت اللَّه الذين آمنوا بالقول الثابت فى الحياة الدنيا وفى الآخرة} إبراهيم: ٢٧،.
٢ -روى البخارى ومسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " إن العبد اذا وضع فى قبره وتولى عنه أصحابه، وإنه ليسمع قرع نعالهم، أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان له: ما كنت تقول فى هذا الرجل؟ - لمحمد - فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد اللَّه ورسوله، فيقولان: انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة فيراهما جميعا، وأما الكافر والمنافق فيقال له: ما كنت تقول فى هذا الرجل؟ فيقول: لا أدرى، كنت أقول، ما يقول الناس، فيقولان: لا دريت ولا تليت، ويضرب بطارق من حديد ضربة فيصيح صيحة فيسمعها من يليه غير الثقلين " وقوله: لا دريت ولا تليت، دعاء عليه بألا يكون داريا ولا تاليا، أو إخبار بحاله فإنه لم يكن قد علم بنفسه ولا سأل غيره من العلماء.
٣-روى مسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم مر بقبور ثم قال " إن هذه الأمة تبتلى فى قبورها، فلولا ألا تدافنوا لدعوت اللَّه أن يسمعكم من عذاب القبر الذى أسمع منه " ثم قال " تعوذوا بالله من عذاب القبر".
٤ - روى البخارى أن النبى صلى الله عليه وسلم رأى فى المنام أن ملكين أخذا بيده، ومرا به على أناس يعذبون فى قبورهم بصور مختلفة لارتكابهم الكبائر، وجاء فيه أن العذاب الذى ينزل بهم يستمر إلى يوم القيامة، يقول ابن القيم: وهذا نص فى عذاب البرزخ، فإن رؤيا الأنبياء وحى مطابق لما فى نفس الأمر.
٥ -وروى البخارى ومسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم قال فى سعد بن معاذ " هذا الذى تحرك له العرش وفتحت له أبواب السماء، وشهده سبعون ألفا من الملائكة، لقد ضُمَّ - هى ضمة القبر - ثم فرج عنه ".
٦ - روى البخارى ومسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم مَرَّ بقبرين فقال " إنهما يعذبان وما يعذبان فى كبير، بلى إنه كبير، أما أحدهما فكان يمشى بالنميمة وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله ".
٧ - يقول اللَّه تعالى " النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} غافر: ٤٦، فالعرض يكون فى القبر قبل يوم القيامة.
هذه بعض الأدلة القوية على ثبوت النعيم والعذاب فى القبر، فذلك ثابت بالسنة وظاهر الآية، وأهل السنة مجمعون عليه، والإِجماع حجة عند أكثر الأصوليين، وأنكره جماعة من المعتزلة، ومهما يكن من شىء فإن العقائد لا تثبت إلا بالنص القطعى فى ثبوته ودلالته، والحديث الصحيح الذى دل على نعيم القبر وعذابه اعتبره بعض العلماء من قطعى الثبوت الذى يفيد العلم اليقينى، واعتبره آخرون ظنى الثبوت الذى لا يفيد العلم اليقينى، ومن هنا كان الخلاف فى الحكم على من أنكر نعيم القبر- وعذابه، هل هو كافر أو غير كافر.
النقطة الثانية:
جاء فى كتاب " مشارق الأنوار " للعدوى (ص ٣٦) .
بعد أن ساق، عدة نصوص - لا ترقى إلى درجة تؤخذ منها عقيدة قوله:
فتحصَل مما سبق أن النعيم لا يكون إلا دائما، وأما التعذيب فإما أن يكون دائما أيضا وهو عذاب الكفار وبعض العصاة، ومنقطعا وهو لبعض العصاة، ولذلك قال العلامة الدردير فى " خريدته ": العذاب قسمان إما دائم وهو للكفار وبعض العصاة، أو منقطع وهو لبعض العصاة ممن خفت جرائمه، وانقطاعه إما بسبب كصدقة أو دعاء، أو بلا سبب أى بمجرد العفو.
ثم قال فى صفحة ٣٧: ويرتفع العذاب عن سائر الخلق ليلة الجمعة ولو كفارا ثم يعود على الصحيح، قال العلامة النفراوى: وقيل إنه بعد ارتفاعه عن المؤمن ليلة الجمعة لا يعود أبدا، قال: وحينئذ من مات قبل يوم الجمعة بيوم لا يكون عذابه إلا يوما، وبه قال بعضهم، انتهى قال العدوى: وهو مردود بما أفاده الإمام السيوطى حيث قال فى " شفاء الصدور " إن عدم العود لا دليل عليه، فلم يرد فى هذا حديث صحيح ولا حسن.
ثم قال: وما قاله الإِمام السيوطى فهو فى غاية الظهور، لما تقدم لك من حديث البخارى ومسلم السابق فى الجريدتين بقوله " لعل اللَّه يخفف عنهما ما لم ييبسا" وفى رواية لأبى داود " يهون عليهما ما دام من بلواتهما شىء " فهذا القيد منه صلى الله عليه وسلم ظاهر فيما قاله السيوطى ولا يلتفت لغيره، لا سيما فى مجالس الفجرة المتجاهرين بالفسق.
النقطة الثالثة:
قال ابن القيم: مذهب سلف الأمة وأئمتها أن الميت إذا مات يكون فى نعيم أو عذاب، وأن ذلك يحصل لروحه وبدنه، وأن الروح تبقى بعد مفارقة البدن منعمة أو معذبة، وأنها تتصل بالبدن أحيانا، ويحصل لها معه النعيم أو العذاب ثم إذا كان يوم القيامة الكبرى أعيدت الأرواح إلى الأجساد، وقاموا من قبورهم لرب العالمين. ومعاد الأبدان متفق عليه بين المسلمين واليهود والنصارى.
قال الحافظ ابن حجر فى " الفتح ": وذهب أحمد بن حزم وابن هبيرة إلى ان السؤال يقع على الروح فقط من غير عود إلى الجسد، وخالفهم الجمهور فقالوا: تعاد الروح إلى الجسد أو بعضه كما ثبت فى الحديث، ولو كان على الروح فقط لم يكن للبدن بذلك اختصاص، ولا يمنع من ذلك كون الميت قد تتفرق أجزاؤه، لأن الله قادر أن يعيد الحياة إلى جزء من الجسد ويقع عليه السؤال، كما هو قادر على أن يجمع أجزاءه.
والحامل للقائلين بأن السؤال يقع على الروح فقط أن الميت قد يشاهد فى قبره حال المسألة لا أثر فيه، من إقعاد ولا غيره ولا ضيق فى قبره ولا سعة، وكذلك غير المقبور كالمصلوب. وجوابهم أن ذلك غير ممتنع فى القدرة، بل له نظير فى العادة وهو النائم، فإنه يجد لذة وألما لا يدركه جليسه، بل اليقظان قد يدرك ألما ولذة لما يسمعه أو يفكر فيه ولا يدرك ذلك جليسه. وإنما أتى الغلط من قياس الغائب على الشاهد، وأحوال ما بعد الموت على ما قبله، والظاهر أن اللَّه تعالى صرف أبصار العباد وأسماعهم عن مشاهدة ذلك وستر عليهم، إبقاء عليهم لئلا يتدافنوا، وليست للجوارح الدنيوية قدرة على إدراك أمور الملكوت إلا من شاء الله، وقد ثبتت الأحاديث بما ذهب إليه الجمهور، كقوله " إنه ليسمع خفق نعالهم " وقوله " تختلف أضلاعه " لضمة القبر، وقوله " يسمع صوته إذا ضربه بالمطراق؟ وقوله "يضرب بين أذنيه " وقوله " فيقعدانه " وكل ذلك من صفات الأجساد.
وقال الدردير فى كتابه " الخريدة ": والتعذيب للروح مع البدن ولو لم يقبر، فالتعبير بالقبر جرى على الغالب، إذ لا مانع من أن يخلق الله تعالى فى جميع الأجزاء أو بعضها نوعا من الحياة قدر ما يدرك ألم العذاب ولذة النعيم، وهذا لا يستلزم أن يتحرك ويضطرب أو يرى أثر العذاب عليه، حتى إن من أكلته السباع أو صلب فى الهواء يعذب وإن لم نطلع عل ذلك. ثم قال: ومن عذاب القبر ضغطته، وهى التقاء حافتيه حتى تختلف أضلاع الميت، وتختلف باختلاف العمل، حتى إن الصالح تضمه ضمة الأم الشفوقة على ولدها.
انتهى