[اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل وأثرها]
المفتي
جاد الحق على جاد الحق.
محرم ١٤٠٠ هجرية - ٢٦ نوفمبر ١٩٧٩ م
المبادئ
١ - الإسلام دين الأمن والسلام.
٢ - جنوح العدو للسلم أثناء الحرب واجب القبول.
٣ - المعاهدات بين المسلمين وغيرهم جائزة ويجب الوفاء بها ما لم يطرأ ما يقتضى نقضها.
٤ - بدء المسلمين بالصلح جائز ما دام ذلك لجلب مصلحة لهم أو لدفع مفسدة عنهم.
٥ - قبول المسلمين لبعض الضيم جائز ما دام فى ذلك دفع لضرر أعظم.
٦ - نصوص اتفاقية السلام وملحقاتها لم تضيع حقا ولم تقر احتلالا.
٧ - ما كان لقلة من العلماء أن تنساق أو تساق إلى الحكم بغير ما أنزل الله وتنزل إلى السباب دون الرجوع إلى أحكام شريعة الله.
٨ - صلح الحديبية كان خيرا وبركة على المسلمين، وفى صلحنا المعاصر مع إسرائيل نتفاءل ونأمل أن يكون فتحا نسترد به الأرض ونحمى العرض، وتعود به القدس عزيزة إلى رحاب الإسلام وفى ظل السلام
السؤال
عن حكم اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل وأثرها
الجواب
كان الإسلام ولازال دين الأن والأمان والسلام والسكينة والصفاء والمودة والإخاء وليس دين حرب أو شحناء أو بغضاء، لم يستخدم السيف للتحكم والتسلط إنما كانت حروبه وسيلة لتأمين دعوته، وقد أمر القرآن الكريم المؤمنين بالامتناع عن القتال إذا لم تكن هناك ضرورة، ففى كتاب الله قوله سبحانه {فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا} النساء ٩٠، وقوله {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله} الأنفال ٦١، ومن تعاليم الإسلام للمسلمين أن يردوا كل ما يختلفون فى معرفة أحكامه إلى الله ورسوله قال تعالى {فإن تنازعتم فى شىء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} النساء ٥٩، وأكد الله سبحانه هذا المبدأ بوجوب الإذعان لحكمه وحكم رسوله فى قوله فى القرآن الكريم {إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا} النور ٥١، وها نحن العرب قد اختلفنا مع اليهود، وقامت الحرب بيننا سنوات ثم قامت لهم دولة اعترف بها المجتمع الدولى، وظاهرتها أقوى دول العالم وعقدنا معها اتفاقية الهدنة بعد الحرب الأولى بيننا سنة ١٩٤٨ ثم وقعت حرب سنة ١٩٥٦ مع مصر وقامت هدنة أخرى ثم حرب سنة ١٩٦٧ حيث احتلت إسرائيل جميع أراضى فلسطين وزادت فاحتلت سيناء من أرض مصر والجولان من سوريا ولم ترض مصر بهذه الهزيمة وما استكانت، بل استعدت وجندت أبناءها وعبأت مواردها ثم ضربت ضربة رمضان المنتصرة فاستردت بها هيبة العرب واضطرت معها إسرائيل أن تستغيث بنظرائها وفى أوج النصر العسكرى عرض رئيس مصر السلام أملا فى أن يسود هذه المنطقة الأمن وأن يسترد العرب أنفاسهم من حرب طالت واستطالت دون أن يبدون فى أفقها نهاية، واستطاع رئيس مصر أن يسترد أجزاء كبيرة من سيناء سلما فوق ما استرده بالحرب ثم كانت مبادرته ونداؤه بالسلام فى القدس وفى حضور الخصوم ليشهد عليهم العالم إن أبوا الدخول فيه وصبر وجادلهم بالحجة والمنطق كما جالدهم بقوة السلاح وعزم الرجال حتى جنحوا للسلم وارتضوه عهدا تنحل به هذه الأزمة وقبلوا بحرب رمضان - أن يرحلوا عن الأرض التى احتلوها فوق العشر سنوات ورضوا من الغنيمة بالإياب والمسالمة فما حكم الله ورسوله فى هذا الصلح الذى تم بين مصر وإسرائيل بعد تلك الحروب وإنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا.
إننا إذا نظرنا فى كتاب الله قرآنه الكريم نجد أنه قد قرر أن العلاقة الأساسية بين الناس جميعا هى السلم نجد هذا واضحا فى قوله تعالى {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم} الحجرات ١٣، وقوله سبحانه {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذى خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذى تساءلون به والأرحام} النساء ١، وبهذا النداء للناس بوصفهم بنى الإنسان كان السلم هو الحالة الأصلية التى تشيع المودة والتعاون الخير بين الناس، وكانت الدعوة إلى غير المسلمين بأنهم إذا سالموا كانوا سواء مع المسلمين فى نظر أحكام الإسلام لأنهم جميعا بنو الإنسان، ولم يجز الإسلام الحرب إلا لعلاج حالة طارئة ضرورية، وإذا كانت هذه هى منزلة الحرب فى الإسلام فإنه يقرر بأنها إذا وقعت وجنح أحد الطرفين المتحاربين إلى السلم وجب حقن الدماء نرى هذا واضحا وجليا فى قوله تعالى {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم.
وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله} الأنفال ٦١، ٦٢، هذا حكم الله أنزله إلينا، وهو يجيز لنا أن نتعاهد ونقيم المعاهدات مع غير المسلمين إبقاء على السلم أصلا أو رجوعا إليه بوقف الحرب وقفا مؤقتا بمدة أو وقفا دائما، كما يجيز أن تتضمن المعاهدة مع غير المسلمين تحالفا حربيا وتعاونا على رد عدو مشترك.
قال القرطبى إن كان للمسلمين مصلحة فى الصلح لنفع يجتلبونه أو ضرر يدفعونه فلا بأس أن يبتدىء المسلمون إذا احتاجوا غليه، وقد صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر على شروط نقضوها فنقض صلحهم، وهادن قريشا عشرة أعوام حتى نقضوا عهده ثم قال ومازالت الخلفاء والصحابة على هذه السبيل التى شرعناها سالكة وبالوجوه التى شرحناها عاملة.
ثم نقل قول الإمام مالك رضى الله عنه فقال تجوز مهادنة المشركين النسة والسنتنين والثلاث وإلى غير مدة - الجامع لأحكام القرآن ج - ٨ ص ٣٩ - ٤١ فى تفسير سورة الأنفال.
وفى التعقيب على تفسير الآيتين ٨٩، ٩٠ من سورة النساء حيث انتهت الأخيرة بقوله تعالى {فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا} قال القرطبى ص ٣٠٩ ج - ٥ فى هذه الآية دليل على إثبات الموادعة بين أهل الحرب وأهل السلام إذا كان فى الموادعة مصلحة للمسلمين.
وفى فتح البارى لابن حجر العسقلانى بشرح صحيح البخارى فى باب الموادعة والمصالحة مع المشركين تعليقا على الآية الكريمة {وإن جنحوا للسلم} إن هذه الآية دالة على مشروعية المصالحة مع المشركين.
وفى نتقى الأخبار من أحاديث سيد الأخيار وشرحه نيل الأوطار للشوكانى ج - ٨ ص ٣٩ فى غزوة الحديبية بعد أن نقل الأحاديث فى شأنها أن مصالحة العدوم ببعض ما فيه ضيم على المسلمين جائزة للحاجة والضرورة دفعا لمحظور أعظم منه.
وإذا تتبعنا سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده، نجد أنهم قد تعاهدوا مع غير المسلمين ولم ينقضوا عهدا عقدوه إلا أن ينقض من الغير، ولعل فاتحة عهود الرسول ومعاهداته كان العهد مع يهود المدينة وتحالفة معهم ثم تعامله وصحبه اقتصاديا، ولقد ظل وفيا بهذا الوعد والعهد حتى نقضه اليهود فانتض، وصلح الحديبية شروطه مشهور واعتراض الصحابة عليه، كل ذلك فعله رسول الله، ولنا فيه القدوة ولانه فعل ما فيه المصلحة للمسلمين، ولقد عاهد خالد بن الويد أهل الحيرة وصالحهم، وصالح عمر بن الخطاب أهل إيلياء وكان يستدعى الزعماء غير المسلمين ويشاورهم ويستأنس بآرائهم كما فعل عندما أراد تنظيم الطرق بعد فتحها، وكما استشار المقوقس عظيم القبط فى مصر بعد الفتح.
وقد عقد الفقهاء المسلمون على اختلاف مذاهبهم الفقهية أبوابا فى كتبهم ابانوا فيها أحكحام المهادنة والمصالحة مع غير المسلمين، واتفقت كلمتهم على أن لرئيس الدوملة المسلمة أن يهادن ويصالح محاربيه من غير المسلمين يوقف الحرب معهم مادام فى هذا مصلحة للسلمين، واستندوا فى هذا إلى قول الله سبحانه {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها} الأنفال ٦١، وإلى صلح الرسول صلى الله عليه وسلم مع أهل مكة عام الحديبية، وأضاف الفقهاء قولهم ولأن الموادعة جهاد معنى إذا كان خيرا للمسلمين لأن المقصود هو دفع الشر الحاصل بالحرب.
(كتاب البحر الرائق شرح كنز الدقائق لإبن نجيم الحنفى ص ٧٨ وما بعدها ج - ٥ وبدائع الصنائع للكاسانى الحنفى ص ١٠٨ وما بعدها ج - ٧ ومجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر - فقه حنفى ج - ١ ص ٦٤٥ وما بعدها والمغنى لابن قدامة الحنبلى ج - ١٠ ص ٥١٧ وما بعدها وحاشية الدسوقى على الشرح الكبير فقه مالكى ج - ٢ ص ٢٣٢ وحواشى تحفة المحتاج بشرح المنهاج ج - ٩ ص ٣٠٤ وما بعدها.
وكتاب قواعد الأحكام فى مصالح الأنام للسلطان العز بن عبد السلام الشافعى ج - ١ ص ١٠٣) .
بل ان فقهاء الشيعة الامامية صرحوا بهذا فى كتبهم.
ففى كتاب المختصر النافع فى فقه هذا المذهب ج - ١ ص ١١٢ فى كتاب الجهاد وإن اقتضت المصلحة المهادنة جاز لكن يتولاها الإمام ومن يأذن له.
ويقول الفقيه ابن القيم فى كتابه زاد المعاد ج - ٢ ص ١٨٤ ولما قدم النبى صلى الله عليه وسلم المدينة صار الكفار معه ثلاثة أقسام قسم صالحهم ووادعهم على ألا يحاربوه ولا يظاهروا عليه ولا يوالوا عليه عدوه وهم على كفرهم آمنون على دمائهم وأموالهم.
وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة. وقسم تاركوه فلم يصالحوه ولم يحاربوه بل انتظروا ما يؤول إليه أمره وأمر أعدائه.
فقابل كل طائفة من هذه الطوائف بما أمره به ربه تبارك وتعالى.
ثم قال فى ص ٢٠٠ فى فقه صلح خيبر وفى القصة دليل على جواز عقد الهدنة مطلقا من غير توقيت بل ما شاء الإمام ولم يجىء ما يسنخ هذا الحكم البتة، فالصواب جوازه وصحته.
وقد نص عليه الشافعى فى رواية المزنى، ونص عليه غيره من الأئمة.
ويقول العلامة ابن تيمية فى كتابه الاختبارات ص ١٨٨ فى باب الهدنة ويجوز عقدها مطلقا ومؤقتا والمؤقت لازم من الطرفين يجب الوفاء له ما لم ينقضه العدو، ولا ينقض بمجرد خوف الخيانة فى أظهر قولى العلماء وأما المطلق فهو عقد جائز يعمل الإمام فيه بالمصلحة.
أسس المعاهدات فى الإسلام وحينما نطالع أقوال علمائنا فى تفسير آيات القرآن وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فى شأن الحرب والصلح، ونطلع كذلك على ما نقله الفقهاء فى هذا الشأن نرى أنهم قد استوجبوا توافر الأسس التالية لقيام المعاهدات مع غير المسلمين شرعا.
الأول ما دل عليه قول الرسول عليه الصلاة والسلام (كل شرط ليس فى كتب الله فهو باطل) وهذا مفاده أنه يتعين على ولى أمر المسلمين الذى يتعاهد مع غير المسلمين ألا يقبل شرطا يتعارض صراحة أو دلالة مع نصوص القرآن الكريم، محافظة على سمة الشريعة العامة واحتفاظا بعزة الإسلام والمسلمين قال تعالى {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} المنافقون ٨، ومثال الشروط أو التعهد بمقتضاها بالقعود عن نجدة المسلمين عند الاعتداء على ديارهم وأموالهم.
الثانى تحديد الشروط فى المعاهدات بينة واضحة على مثال المصالحات التى عقدها الرسول عليه الصلاة والسلام، فقد كانت محددة فى الحقوق والالتزامات المتبادلة بين المتعاقدين وذلك حتى لا تكون وسيلة للغش والخداع واستلاب الحقوق.
الثالث أن تعقد المعاهدة فى نطاق التكافؤ بين طرفيها، فلا يجوز لولى أمر المسلمين أن يعاهد ويصالح تحت التهديد، لأن مبدأ الإسلام التراضى فى كل العقود.
ومسالمة المسلمين لمخالفيهم فى الدين أمر يقره الإسلام، فمن المبادئ العامة التى قررتها الشريعة فى معاملة أهل الكتاب تركهم وما يدينون والمنع من التعرض لهم متى سالموا بل والتسوية بينهم وبين المسلمين فى الحقوق الواجبات العامة، وأجازت مواساتهم وإعانة المنكوبين وأباحت الاختلاط بهم ومصاهرتهم، وما أباحت قتالهم إلا ردوا لعدوان قال تعالى {فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم} التوبة ٧، وقال سبحانه {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذى أخدان} المائدة ٥، وكان من أوامر الإسلام الوفاء بهذه المعاهدات إذا انعقدت بشروطها داخلة فى نطاقه غير خارجة على أحكامه وحافظ عليها الطرف الآخر ولم تنفذ ظروف انعقادها، وهذا هو القرآن الكريم يقول {إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم} التوبة ٤، ويقول فى شأن توقع الخيانة من المعاهدة دعوة إلى اليقظة والحذر {وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين} الأنفال ٥٨، ذلك حكم الإسلام فى التعاهد والمصالحة، بل والمحالفة مغ غير المسلمين يقر المعاهدات التى تضمن السلام المستقر وتحفظ الحقوق، وهو فى ذات الوقت ينهى عن خيانة العهد ويأمر بالوفاء بالوعد، فالعلاقة بين الناس فى دستور الإسلام علاقة سلم حتى يضطروا إلى الحرب للدفاع عن النفس أو للوقاية منها، ومع هذا يأمر الإسلام بأن يكتفى من الحرب بالقدر الذى يكفل دفع الأذى، ويأمر كذلك بتأخيرها ما بقيت وسيلة إلى الصبر والمسالمة، ولم يجعل الإسلام الوفاء بالعقود والعهود من أعمال السياسة التى تجوز فيها المراوغة عند القدرة عليها، بل جعله أمانة من الأمانات واجبة الأداء يكاد الخارج عنعا أن يخرج عن الإسلام، بل ويخرج عن آدميته ويصبح بهذا فى عداد السائمة قال تعالى {وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون.
ولا تكونوا كالتى نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هى أربى من أمة إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون} النحل ٩١، ٩٢، وبعد فإن الإسلام صاغ الحياة البشرية فى نطاق قوله تعالى {ولقد كرمنا بنى آدم وحملناهم فى البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا} الإسراء ٧٠، هذا التكريم للإنسان، أى إنسان، بغض النظر عن لونه أو دينه أو جنسه أو وطنه أعاد إلى فكر الإنسان وقلبه أن النسا جميعا بنو آدم وحواء جعلهم الله شعوبا وقبائل ليتعارفوا، وأرسل إليهم الرسل لهداءتهم من الضلال، حتى كان الإسلام خاتما لجميع الرسالات يحوى كتابه ما حملته الكتب السابقة عليه منقيا عقيدته وعبادته وتشريعه مما لم يعد ملائما لدين الله الخالد إلى يوم الدين.
ثم حث الإسلام على الدعوة إلى الله بالمنطق والعقل، فجعل توحيد الله أساسا تتعاون فى ظله كل الديانات قال تعالى {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله} آل عمران ٦٤، ووجه القرآن الكريم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنمط الدعوة المطلوب فقال {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن} النحل ١٢٥، وفى نطاق هذا الاتجاه والتوجيه، عقد الرسول حين قدم المدينة مهاجرا معاهدة بين المسلمين واليهود وباقى الأقليات التى كانت تساكنه فى المدينة وما حولها، رسم بها سبيل دولة الإسلام فى التعاون المشترك مع مواطنيها وجبرتها من أهل الأديان الأخرى، وهذه المعاهدة التى قد نسميها بأسلوبنا المعاصر (معاهدة دفاع مشترك) يرشدنا فقهها إلى أن نسلك هذا السبيل ونقتدى بها ما دام فى مثلها مصلحة للمسلمين.
ولقد كان من آثار هذه المعاهدة كما سبق القول التعاون المالى والاقتصادى بين جميع القاطنين فى المدينة وما حولها دون نظر إلى الاختلاف فى العقيدة والدين.
والإسلام يضع بذلك إطارا للتعايش بين بنى الإنسان على اختلاف مللهم ونحلهم بهذا الوصف الإنسانى، ويخاطبهم به داعيا إياهم للتراحم والتعاطف والتساند فى الشدائد والملمات، ثم يخص المسلمين بتوجيه أوفى وتوصيف أوسع وأسمى، فيجعل أخوتهم الدينية أعلى نسبا وأقوى لحمة من كل الأنساب والأحساب التى يتفاخرون بها، ويضع لهم نماذج نقية لما يجب أن يأخذوا أنفسهم به فقال تعالى {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} المائدة ٢، وقال جل شأنه {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} التوبة ٧١، وقال أيضا {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} آل عمران ١٠٤، بهذا المنطق كان توجيه القرآن الكريم للمسلمين إلى أحسن السبل للتعاون وتنقية المجتمع والحفاظ على مصالح المسلمين.
وبنفس المنطق يحددالرسول صلى الله عليه وسلم المسئولية ويضعها على عاتق أولياء الأمور كل فى موقعه فيقول (كلكم راع ومسئول عن رعيته، الإمام راع ومسئول عن رعيته) (رواه البخارى) ويقول (ما من أمتى أحد ولى من أمر الناس شيئا لم يحفظهم بما يحفظ به نفسه إلا لم يجد رائحة الجنة..) (رواه الطبرانى عن ابن عباس فى الصغير والأوسط) .
ومن هذا يبين مدى مسئولية رئيس الدولة فى الإسلام، وأن عليه أن يحفظ الرعية مما يحفظ به نفسه، لأنه قد التزم العمل لمصلحتها وفى نطاق هذه المسئولية وفى خضم نزاع العرب وإسرائيل وفى ظلال هزيمة سنة ١٩٦٧ التى لحقت بالعرب كل العرب فنكست رؤوسهم خطط رئيس مصر لرفع هذا العار وحاربت مصر فى رمضان وكان النصر من عند الله للمؤمنين الذين رابطوا وجاهدوا حتى محوا خزى العار ووضعوا أكاليل الغار، ثم كانت تلك النظرة الثاقبة الفاحصة للمجتمع الدولى وموقفه من النزاع، هذه النظرة التى تمثلت فى مبادرة السلام فى نوفمبر سنة ١٩٧٧، السلام المطلوب سلام العزة ومن موضع القوة لا من موقع الضعف والهزيمة، وجاهد رئيس مصر وفاوض وكافح حتى سلم الخصم أو استسلم بعد إذ رأى مفاوضا قوى الحجة ثابت الجنان مستمسكا بأرض العرب كل العرب ومقدسات المسلمين لم يفرط فى حق ولم تلن عزيمته، بل كان صابرا ومثابرا للوصول إلى غاية الطريق بعد أن بدأ بخطوات رشيدة شديدة، ومازال يهدف إلى الغاية ويحث الخطى حتى يصل الحق إلى أصحابه بعون من الله وتأييده.
قال تعالى {إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم} محمد ٧، إذا عرضنا اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل على قواعد الإسلام التى أصلها القرآن وفصلتها السنة، وبينها فقهاء المذاهب جميعا على نحو ما أجملنا الإشارة إليه نجد أنها قد انطوت تحت لواء أحكام الإسلام.
فهى قد استخلصت قسما كبيرا من الأرض التى احتلتها إسرائيل فى هزيمة سنة ١٩٦٧ بما فيها وعليها من مواطنين عادت إليهم حريتهم وثروات نستفيد بها بدلا من أن يستنزفها الخصوم، فهل استرداد الأرض والثروة مما يأمر به الإسلام أو مما ينهى عنه وهل فى هذا مصلحة محققة للمسلمين أو شر ما حق لاحق بهم وهل فى عودة المواطنين التى تحررت أرضهم إلى دولتهم ترعى شئونهم من تعليم وصحة ودعو وتجارة وكل مسئوليات الدولة نحوهم، هل هذا مما أمر به الإسلام أو مما نهى عنه حين نعرض هذه الاتفاقية فى ضوء مسئوليات الحاكم المسلم نجد أن رئيس مصر قد نصح للأمة قوام بالمسئولية، فحافظ على الرعية حفاظه على نفسه، حارب حين وحد ألا مندوحة من الحرب بعد أن استعد وأعد، وفاوض وسالم حين ظهر ألا مفر من السلم وأنه يستطيع الوصول إلى الحق والحصول عليه سلما لا حربا، والإسلام يقرر أن الحرب ليست حرفة ولا غاية وإنما هى ضرورة دفاع أو وفاية، وكما قال الرسول الأكرم (إن الله يحب الرفق فى الأمر كله) (رواه البخارى ومسلم) أى ان الله سبحانه يحب لين الحانب فى الفعل والقول، كما يحب الأخذ بالأيسر الأسهل فى أمور الدين والدنيا ومعاشرة الناس فإذا استعصت الحرب كوسيلة لاسترداد الحق، وتيسر السلم أفلا يكون هو الأول والأولى اللهم ان السلام تحية الإسلام وخلق الإسلام وصمام أمنه وأمانه يتمثل هذا فى قول رسول الله عليه الصلاة والسلام (إن الله جعل السلام تحية لأمتنا وأمانا لأهل ذمتنا) (رواه الطبرانى والبيهقى) وإنما كانت تحية المسلمين بهذا للفظ للإشعار بأن دينهم السلام والأمان وأنهم أهل السلم محبون للسلام.
بقى أنه قد يقال ان مصر انفردت بالصلح مع إسرائيل وخرجت بذلك عن تعاهد العرب على حل جماعة، ولكن هذا القول لا يلتقى مع الواقع، واقع الاتفاق الذى تم والخطوات المترتبة عليه، فإن العرب متفقون على حل سلمى بعد أن استحالت الحرب للظروف الدولية التى لا يمكن الإغضاء عنها، فإذا تقاعس بعض العرب عن السعى إلى الحل السلمى دون سبب ولا سند، كان على من يستطيع كسب الموقف السابق إليه وصولا للغاية المرجوة، والأمر موكول إلى القدرة على الحركة، فمن استطاع تقدير الأمور وارتباطاتها الدولية، ووجد من نفسه القدرة على استخلاص الحق، كان له بل كان عليه أن يسعى إليه، لأن هذه المسئولية ولى أمر المسلمين يعمل لصالح الجماعة يحافظ عليها.
وإذا كانت نصرة السملم للمسلم واجبة (انصر أخاك ظالما أو مظلوما) (متفق عليه من حديث أنس) فقد كان واجب الحكام العرب بله المسلمين أن ينصروا رئيس مصر وهو يكافح وينافح فى سبيل استرداد الأرض والمقدسات، لا أن يخذلوه ويقيموا العراقيل فى سبيله بينما هو يعمل لصالح الجميع.
(المسلمون يد على من سواهم ويسعى بذمتهم أدناهم) .
حين نستعرض نصوص اتفاقية السلام وملحقاتها وعرضها على القرآن والسنة، ولا نجد فيها ما ينأى بها عن أحكامهما إذ لم يتضيع حقا وما أقرت احتلال أرض وإنما حررت واستردت.
وما دامت هذه الاتفاقية قد أفادت المسلمين ووافقت مصلحتهم فإنه لا يليق بمسلم أن يبخسها حقها من التقدير.
قال تعالى {ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا فى الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين} الأعراف ٨٥، بل إن الغض من شأنها والغش فى بيان أهدفاها وآثارها لا يليق بمسلم، لأن من واجبه بحكم القرآن والسنة أ، يشد من أزر من ثابر وبذل الجهد بل غاية الوسع فى سبيل الستخلاص الحقوق التى لولا حرب مصر فى رمضان لصارت نسيا منسيا، ولصارت سياسة الأمر الواقع واللاسلم واللاحرب قانونا يقضى به على رقاب العرب، وتضيع فى ظلاله حقوقهم ولكن الله قيض خير أجناد الأرض وشد من عزمهم فكانت رمية الله هى رمايتهم، فصعق العدو من بأسهم بعد أن أخذوا بتلابيبه وسر الصديق بنصر الله.
ولعلنا نذكر الاخوة المسلمين بوصايا الرسول صلى الله عليه وسلم بمثل قوله (المؤمن للمؤمن كابنيان يشد بعضه بعضا) (متفق عليه) ولا إيذاء بين المسلمين بقول أو فعل (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) (متفق عليه من حديث عبد الله بن عمرو) .
ويقول فى ختام حديث طويل يأمر فيه بالفضائل (فإن لم تقدر فدع الناس من الشر فإنها صدقة تصدقت بها على نفسك) .
(متفق عليه من حديث أبى ذر) وبعد فإنه لابد من كلمة وجيزة أوجهها لعلماء المسلمين فى كافة أنحاء الأرض على اختلال جنسياتهم السياسية.
هى أن الله وكل إليهم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر قال جل شأنه {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} آل عمران ١٠٤، وقال {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا فى الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم} التوبة ١٢٢، هذا هو واجب العلماء الذين سماهم فقهاء الإسلام أهل الحل والعقد أهل العلم والبصر بأمور اللدين والدنيا كل ذى خبرة فى ناحية من نواحى الحياة، علماء المسلمين قد فاه بعضهم بما ليس حكما لله تعالى ولا لرسوله، بما ليس نصحا لله ولا لرسوله ولا لأئمة المسلمين وعامتهم.
إرضاء للساسة الذين لا يحتكمون إلى الله ورسوله قال تعالى {والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين} التوبة ٦٢، وما كان لبعض من رمى مصر والمصريين بالخروج بهذه الاتفاقية عن الإسلام.
ما كان لهؤلاء أن يسارعوا إلى حكم لا يملكون إصداره قال تعالى {يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم فى سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا} النساء ٩٤، ما كان لهذه القلة من العلماء الذين انساقوا أو سيقوا إلى الحكم بغير ما أنزل الله، ثم انزلقوا إلى السباب دون أن يراجعوا أحكام شريعة الله، ومن غير أن يتثبتوا وزعوا الكفر على المسلمين دون رؤية أو استظهار لحكم الإسلام، مع أن القرآن علمنا إلا نتقدم على حكم الله فقال تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدى الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم} الحجرات ١، نعم.
لهؤلاء الذين تسرعوا فى الحكم دون علم أو عن غرض نتلوا قول الله تعالى {بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين} يونس ٣٩، إن كل مسلم بلغه حكم الله فى أى أمر من الأمور.
يجب عليه أن يتبعه ولا يحل له أن يتخطاه، بل وعليه أن يعلنه ويعلمه الناس سيما إذا كان من العلماء الذين وكل الله إليهم علم دينه وبيان أحكام شريعته.
إن ربنا سبحانه يقول {ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولى الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم} النساء ٨٣، ويقول {لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة} الأحزاب ٢١، ولقد رددنا أمر اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل وعرضناها على القرآن والسنة فوسعتها أحكامهما.
قال تعالى {إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين} الأنعام ٥٧، وبعد فإن الإسلام دين الوحدة، وحدة المعبود ووحدة العبادة ووحدة القبلة، ومن أجل هذا دعا الله سبحانه إلى الاعتصام بحبله قال تعالى {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا} آل عمران ١٠٣، فكونوا أيها العلماء دعاة وحدة واخاء كما أمر الله، وبصروا الحكام بأوامر الله حتى تجتمع الأمة على كلمة الله لا تفرقها الأهواء، واستمعوا لقول رسول الإسلام (لا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تقاطعوا وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخ المسلم لا يظلمه ولا يحرمه ولا يخذله، بحسب المرء من الشر أن يحقر أخاه المسلم) .
(متفق عليه من حديث أبى هريرة) وهذا أمر الله سبحانه للمسلمين حكاما وعلماء ومحكومين قال تعالى {فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين} الأنفال ١، وقال سبحانه {إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقى إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب} هود ٨٨، وقال جل شأنه {ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم} الممتحنة ١٠، وبعد فإن صلح الحديبية كان خيرا وبركة على الإسلام والمسلمين، فتح الله به قلوبا غلفا آمنت بالله وبرسوله وانضوت تحت لواء القرآن على بصيرة من الله، وفى طريق عودة الرسول صلى الله عليه وسلم من الحديبية أنزل الله عليه أكرم بشرى (سورة الفتح) .
قال تعالى {إنا فتحنا لك فتحا مبينا} الفتح ١، فانظروا أيها العرب والمسلمون كيف كان هذا الصلح فتحا ونصرا لدين الله ولرسوله، وكيف مهد الأرض لانتشار الإسلام، مع أن أصحاب الرسول كانوا له من الرافضين وعن تنفيذه من القاعدين، حتى علموا خيره فانصاعوا لأمر الله ورسوله.
ونحن وفى صلحنا المعاصر مع إسرائيل نتفاءل، ونأمل أن يكون فتحا نسترد به الأرض، ونسترد به العرض، وتعود به القدس مقدسة عزيزة إلى رحاب الإسلام وفى ظل السلام